يعد الروائي والناقد نبيل سليمان من أوائل النقاد العرب المناصرين لمصطلح نقد النقد، وهو الذي وجّه الاهتمام إليه مطلع ثمانينات القرن الماضي، منطلقا من حاجة نقدنا العربي إلى هذه الممارسة التي تتأتى أهميتها من كون النقد فعالية علمية لها ميادينها وتفرعاتها التي هي من الشمول ما يجعلها حاملة للوعي ومتسمة بالتبصر، وفيها الدلالة على غلبة التفكير وليس الإنشاء والانطباع.
واستعمل الناقد فاضل ثامر مصطلح( اللغة الثانية) للتعبير عن المراجعة والبعد نقدية في كتابه( اللغة الثانية في إشكالية المنهج والنظرية والمصطلحات) متأثرا بتنظيرات ياكوبسون إزاء (ما بعد اللغة) ومبلورا رؤى جان كوهن حول( اللغة العليا) كاستتباع منهجي وإجرائي يؤكد نزعة الناقد التحديثية التي اتسمت بها توجهاته النقدية في الأغلب.
وإذ يعزف الناقد ثامر عن إعطاء توصيف نظري لمفهومه عن اللغة الثانية؛ فإنه ينحاز للطروحات الغربية ما بعد الحداثية، قاصرا اشتغاله في القسم الأول من الكتاب على سيميائية النص الأدبي تحت عنوان ( إمبراطورية العلامة وهيمنة الأنموذج اللغوي) بينما يظل القسم التطبيقي من الكتاب في حدود النقد الأدبي مثل دراسته عن يوسف الصائغ ووقوفه عند تجارب نقدية لنقاد عرب آخرين، لينتهي إلى ضرورة الوضوح المنهجي وتعميق الحوار بين المناهج النقدية، مؤكدا حق كل ناقد في أن يجترح لنفسه منهجا نقديا خاصا به، ينتمي إلى واحد أو أكثر من المناهج الأساسية المعروفة.
وفي دراسته الموسومة( الناقد العربي في مواجهة سلطة النص وسلطة القراءة) يتجنب الأستاذ فاضل ثامر استعمال مصطلح نقد النقد؛ لكن القراءة النقدية تظل عنده أقرب إلى مفهوم المنهج، وهي بمختلف صنوفها بمثابة سلطة تفرض على الناقد هيمنتها، مقترحا الموازنة بين سلطة النص وبقية السلطات داعيا إلى قراءة إبداعية شاملة للنص لا أحادية بعينين مفتوحتين.
ولقد كانت دراسته( النقد الأكاديمي في مواجهة شعرنا الحديث) مميزة، وفيها جعل النقد الأكاديمي فرعا من فروع الدراسة النقدية. وعرّف النقد الأكاديمي أنه البحث الذي يكتسب صفات الأكاديمية كالصبر والدقة والإضافة، منمذجا بدراسة الدكتور علي عباس علوان الموسومة( تطور الشعر العربي الحديث في العراق) كأنضح دراسة أكاديمية تصدت لرصد الظواهر الفنية في الشعر العراقي. ومن مآخذه على هذا النقد الايغال في الحيادية والأكاديمية وإقصاء ما هو ذاتي، والتي بسببها قد يستحيل النقد إلى نص جاف وكئيب ودونما ماء. وفي الدراسة نفسها تساءل الناقد ثامر ما الذي يتعين على الناقد العربي الحديث أن يفعله للخروج من هذه الدوامة وللاحتفاظ بشخصيته النقدية المميزة، مفيدا من المعطيات النقدية والفكرية التي تقدمها الاتجاهات الثقافية والنقدية المختلفة ؟.
والسؤال هنا لماذا أهمل الناقد فاضل ثامر استعمال مصطلح نقد النقد وهو الناقد الواعي بقوة وعمق لما في المرحلة ما بعد الحداثية من طبيعة نقدية متسارعة وشائكة؟ لعل الإجابة المبررة والمقنعة لا تتعدى تعليلين فإما لإحساسه أنه قد حقق ذلك ضمنيا في كتابه( الصوت الآخر الجوهر الحواري) وأما لأنه لم يرد الإفصاح عن تأثره بتودوروف.
ومضى الدكتور جابر عصفور منذ أواخر العقد الثمانيني يتنبه إلى أن هناك نقصاً واضحاً في اشتغالات النقاد العرب على النص الأدبي بسبب غياب ما بعد النقد والمراجعة الهيرومينوطيقية على السواء، وهو ما يجعلنا محتاجين في نشاطنا النقدي إلى نقد النقد. وأكد عصفور الأهمية المتزايدة لنقد النقد في الحضور الثقافي كمؤسسة يتفرع عنها تاريخ النقد الأدبي وحاضر النقد الادبي والموسوعات. ووصف نقد النقد بأنه كتابات تراجع النشاط النقدي من منظور الوصف والتفسير والتقييم، لكنه وضع مصطلح( النقد الشارح) بديلا عن مصطلح ما بعد النقد الذي كان قد فضلَّه سابقا، متوقعا أن غياب الوعي بهذا الأمر في العواصم الثقافية العربية ستنتج عنه أزمة.
ونؤازر تحرز الدكتور جابر عصفور في أن مجلى نقد النقد لن يتضح إلا بمنهجيات تضبط عمليات المراجعة والتأويل وتحدد استراتيجيات المساءلة والتأصيل والاستنطاق، ناهيك عن ضرورة تقييد الكتابات القريبة من هذا الحقل كالكتابات التي تقدم للترجمات والسير الذاتية المعبرة عن تجربة نقدية ما، أو تصدير الناقد لكتابه بنفسه أو تقديمه لكتب غيره، وغير ذلك مما ينطبق عليه الوصف ( قول نقدي راجع قولا نقديا بإزاء نص أدبي) فتكون الحصيلة قراءات ما بعد نقدية أو نقد نقدية.
ولا شك في أن التصاعد في الوعي بنقد النقد لن يتحقق إلا إذا تصاعد الوعي بنظريات القراءة والكتابة ونقد استجابة القارئ، وبمعزل تام عن الاتباعية للنقد الادبي. وهذا ما اشترطه الناقد محمد الدغمومي الذي شدّد على أن إعادة تنظيم المادة النقدية ينبغي أن تكون بعيدة عن أي ادعاء بممارسة النقد الادبي. وبمعقولية هذا الاشتراط تتوضح أهمية البحث عن أساسيات يسير عليها نقاد ما بعد النقد وهم يفسرون ويؤولون ضابطين توجهاتهم نظريا وعمليا محاذرين من الوقوع في الانطباعية ومتحرزين في الوقت نفسه من الارتكان إلى الدغماطية.
وتأمل الناقد مصطفى خضر في كتابه ( النقد والخطاب) العملية النقدية وما فيها من مفهومات معتادة ومستحدثة، وانتقى مصطلح( إعادة النظر والمراجعة) الذي عدَّه دليل حيوية وعلامة قلق متسائلا كيف تتحول إعادة النظر إلى مراجعة نقدية شاملة ومستمرة تعلن الحوار العقلاني بديلا لصراع يلغي الآخر ولا يعترف بحضوره ؟. وذهب إلى أبعد من ذلك حين عدَّ المراجعة النقدية هي الخطوة لبناء مشروع ثقافي عربي.
وسواء أكان نقد الذات أو الآخر هو أساس المراجعة؛ فإن الحوار ينبغي أن يظل هو البغية، تجاوزا لمواضعات التلخيص والعرض اللتين لا تضيفان للنص النقدي اعتبارا ولا تمنحان القارئ دورا أو تخصصا في العملية النقدية. وما نعنيه بالحوار الممارسة الأحفورية في شكل حركة بندولية تبدأ بالنص ولا تنتهي عنده، بل تظل مستمرة من السطح إلى الأعماق ومن المحور إلى الأطراف
وبالعكس .