يقول بودلير (ينبغي علينا لكي ننفذ إلى روح الأديب أن نفتش عن الكلمات التي يكثر استخدامها في أعماله....) ويقول ادونيس (الكلمة كما ورثناها لا تعبر عن كثافة انفعالية أو رؤيوية، بل عن علاقة خارجية.. إنها شبه حيادية لأنها مملوءة بدلالة تأتيها من الخارج....) إن عملية الخلق الشعري هي نتاج محصلة قوى الشاعر ومكتسباته الحياتية ورؤاه الخاصة عبر العام والإنساني.. وتجربته عبر الالتقاط الواعي والحضور التام للأشياء في الواقع إذ أن الوعي الواقعي لا يكون مفهوماً إلا إذا كان منطوياً على وعي فني.. لأن الوعي يعني المعرفة والتخيل في آن واحد كما يقول برونوفسكي، وهذا يتطلب عدم الفصل بين الشكل والمضمون بل النظر اليهما كوحدة واحدة وهنا يكون حضور القصيدة كما يقول ادونيس.. إن اختيارنا لقصيدة (الغيوم) للشاعر إبراهيم الخياط كونها قصيدة امتازت بحركتها واعتمادها الجمع بين الشيء ونقيضه أساساً في نظمها فهي منطلقة من بساطة تجربته وعمقها، ووضوحها وغموضها بصدق شعري وجمال فني، إن بناء الصور الشعرية على المتناقضات يعني إن الشاعر يريد تصوير الصراع النفسي الحاد مما يبلور عنده الوعي في ضرورة رفض الحرب وضبابية الأجواء والإحساس بضرورة التغيير نتيجة القهر المفروض الذي يعيشه والمجتمع بحكم السلطوية والكبت المستمر لان السيوف مشرعة على الأعناق.
فيا نؤوم المسامير متى تنام ؟
ويا مريد الردى ………
من لهذا الأنين الشاسع ؟
فالعراقي الذي خاض بحور من العذابات نتيجة الحروب والقهر، والتجربة الشعرية مرافقة له في نضاله متفاعلة معه في إطار معاناته التجربة الشعرية كما يعرفها هربرت ريد (هي عملية الحياة والحركة العضوية بأكملها التي تسير في الكون...) والشعر وسيلة من الوسائل التي يقيمها الإنسان بين عالمه والطبيعة، فالكلمة الشعرية (..تمنح الشيء الوجود) كما يقول هايدجر أي تجعله موجوداً في حدود حياة الإنسان متفاعلاً معه. ومن الطبيعة يستمد الإنسان إبداعه وكينونته وحيوية وجوده إذ إن محاورة الطبيعة يعني اكتشاف الذات من خلال شحنها بالرموز والدلالات المحيطة به والتي تبعث فيها الحيوية وتوقظ في جسدها الروح..
فالموقف الفكري الملتزم جزء من اتساع دائرة الوعي عند الشاعر تجاه الكشف عن العلاقة بين الطبيعة والإنسان، ومن خلال وعي الشاعر لا تكون الطبيعة جامدة يلفها الصمت من جهاتها الأربع.. بل تبدو جزءً من موقف الشاعر ورؤيته:
ذات حرب....
غفوتُ تحت شرفة الحدود....
فاندلقت قربة أحلامك على الوسادة الترابية
لتسبح في الطين
تطينت جبهتك الناصعة
واستباح بقيتك البق الأليم
ومن غفلتك..أو..اغفائتك
غادرتك الأحلام المسعدة
فالطبية في مستهل القصيدة ديكورٌ هادئ وخلفية شفافة ناعمة وظفها الشاعر توظيفاً نفسياً واجتماعياً وفنياً تتسم بالصدق الفني..
إن الشاعر اختار (البستان) من بين مظاهر الطبيعة بعد أن خبره وعاش حياته وعرف أسراره وعلاقاته فنضج معه في تجربته الفكرية والاجتماعية فاختاره كمظهر من مظاهر الحياة:
اكتب قصيدة تتمنى لك القفول إلى البساتين...
فالبساتين.... فندقٌ مشاعٌ للشعراء والسكارى
البساتين... ليمونٌ وانين
البساتين.... ملاذ الساسة والعشاق والكلاب
البساتين.... بلا سقوف تنوء بكل الأسرار
البساتين....لا تنام ولا تموت....
إن صور الشاعر في (غيوم) تتحرك بديناميكية فاعلة تحمل في طياتها الواقع.. والحلم.. مضيفة حساً إنسانياً على الحياة بفعل الشاعر المتحرك عبر صور الواقع، فهو يريد أن يوصل الإنسان المقهور إلى تاريخه حتى يتمكن من رؤية الواقع، فالرؤية في نظر الشاعر غائمة..
مضببة الأجواء :
يا صدى الهجرة.... استفهمني….
عن السماء الملبدة بالغيوم ….
سأنبئك التأويل المجيد….
وإياك أن تقصصه من مآذن القصيدة….
على الرابضين في تكايا الحدود ….
لأنهم لا يلقونك في الجب ….
حسب….
بل يهيلونها عليك ..وعلى آلك وأصحابك.
فـ(الخياط) يعتمد في رسم مشهده الشعري على ما هو مخزون في ذاكرته حيث تظل الحالة النفسية مستترة خلف الظواهر الطبيعية التي وظفها في قصيدته توظيفاً واعياً من الناحية الفكرية والجمالية ،وانه لم يقف موقف المصور المحايد بل نجده يتدخل بوعي وتأمل في كل ما هو أمامه من مشاهد الطبيعة فيعرضه على شاشة عقله المثقف وحسه الجمالي ويصهرها في عناصر ثقافته لينتج الحكمة :
فأحلامك الأنيقة لم تعد على رف الذاكرة
والفراشات – كقصائدك – تبكي
إن لم تكوها نار ..
وقوله:
ودع نبؤة لا صلاح فيها
ثم اسكب الزيت على لهيب السراج
واحمل تينك الفراشات البريئة
إلى هالة القمر المسفوح وراء الشرفة
وأكتب قصيدتك الأخيرة قبل فصل السلام
فالأفعال الآمرة (دع - اسكب - احمل - اكتب) لحظتها متفجرة بالألم فاعلة تدل على إصرار الشاعر على مواصلة النضال ومواجهة الواقع وهنا يصبح الإنسان اكبر من جراحه..
فالقصيدة تلعن العصر الذي يسرق البراءة والحلم.. تقوم على بناء هندسي يعتمد التضاد (الحرب-السلم) فهي تبدأ من الحلم لتصطدم بالواقع إذ استطاع الشاعر أن يقترب من دائرة الواقع ويدخلها ويعيش تناقضاتها ويحس بانعكاساتها عليه مما مكنه من تكوين رؤية واضحة للواقع مصوراً له تصويراً موضوعياً إلى درجة انه يقف على أدق التفاصيل والجزئيات معتمداً أسلوب التشخيص للربط بين أجزاء الزمن وعناصر الصورة الشعرية ومظاهر الطبيعة والوطن, متخذا الأسلوب التسجيلي الذي لعب فيه الشاعر دور الراوية فرسم لنا صورة تاريخية حية بتفاصيلها.. غنية بحركتها.. نابضة بروحها.. فـ(البساتين تتحرك..
والفراشات تبكي إن لم تكوها النار.. هالة القمر المسفوح وراء الشرفة…) وكل هذا يغني للحرية بساكنيها، لذا فالقصيدة وثيقة تسجيلية – فنية وثقها الشاعر بعد زمن من انتهاء الحرب لأن تفاصيلها (موضوع القصيدة) تعتمد التفصيل المرغوب الذي يشد القارئ لأن تفاصيلها مرتبطة مع بعضها بعلاقات دقيقة تتصل بالصورة الفنية وسياق القصيدة. إنها تجربة شعرية ناضجة تتسم بالوعي الذي يعني الموقف الفكري والرؤية الثورية اللذين يشكلان مصدر الكشف عن المضمون الإنساني لدى الشاعر..