ياسين طه حافظ
ابتدأ الإنسان حياته على الأرض وابتدأت حاجته لضمان العيش. لئلا يجوع، لئلا يدهمه خطر، لكي يبقى حياً. أعقب هذا مبكراً أيضاً ادخاره لما يسد جوعه أو لما يغذيه عند انهمار الثلوج وصعوبة الحصول على صيد أو زرع. هو تفكير أولي بالمستقبل. والادخار من بعد تطور للفكرة السابقة وهو اصلاً لضمان عدم الحاجة في المستقبل. ضمان المستقبل إذاً حاجة لامست الانسان وتطورت بتطوره.
وحين صارت الدول تحتاج مصادر طاقة ومصادر حبوب ومصادر ماء، احتاجت الى ضمان ذلك ولو بالقوة. أعني بالاستيلاء على ارض الغير، على حرف وتغيير مجرى انهارهم و شق طرق عبر بلدانهم للوصول الى حيث المصادر التي يريدونها. وقد تكون الطرق خطوط حديد او اتفاقات دولية او استعمار او ارغام ضمني.
ولذلك أي حديث في قضية مثل هذه، دولية – سياسية لا تحسمها الحماسات والرفض والتظاهر. يحسمها الفهم المشترك وتقدير أن تلك دولة تريد ان تبقى ونحن دولة نريد الاحتفاظ بما لنا لنبقى. الفهم المشترك العقلاني والانساني يوجد تواصلاً إنسانياً ونفعياً. أما عدا ذلك، فهي الصدامات والحروب وما لا تحققه الدولة المحتاجة اليوم تحققه غدا في عدوان جديد وصِدام مسلح جديد. تلك معتدية، نعم. ولكنها دولة تريد ان تبقى في الارض لكن لا على حساب غيرها ولكن بالتفاهم وتبادل المصالح بينهم.
الانسان فردا لا يستقر، يريد دائما اكثر لمستقبله أو يريد حصةً ضامنة من المستقبل. كان هذا سبب رئيس للحروب. وفي أزماننا واضح مثال الحرب العالمية الاولى والحرب العالمية الثانية. فترة الاستقرار مدانة وتسمى ركودا ما دامت هناك احتياجات رئيسة غير متحققة. حين استقرت بريطانيا العظمى حين استسلمت لواقع جديد ولا حروب، جاءت "الارض الخراب" و "الرجال الجوف" ادانة للركود واللامعنى "وإيحاءً ضمنياً بضرورة وجود شيء!" .
مشكلة أخرى هي ان المطامح، مشروعة أو غير مشروعة، بلغة القانون لا لغة الضرورة الاجتماعية، تواجه مرحلة عجز اصحابها. وهنا تصبح المطامح، تصبح الاحلام، متاعب ومصادر وجع عميق: "آه، كيف حلمتُ بأشياء مستحيلة" يقول وليم بليك!
يدخلنا هذا في منطقة تساؤل جديد: هل ثمة مشروعية لي لأطمح واتجاوز؟ السؤال نفسه للدولة أي دولة هل يحق لها ذلك أم نستسلم معا لحقيقة ان الانسان فردا وجماعة في محنة عيش تنتج ادبها وفنونها المعبرة عن دفينها وانهم يجب ان يعيشوا غدا ويضمنوا سلامة ورفاه العيش وديموته وهذا هو الأهم. الموازنة والحدود والمقادير هذه أمور أو معايير تتحكم بها الاخلاقيات، والاخلاقيات تختفي كلها ساعة تمتلك الدولة الغازية أو الفاتحة أو المستعمرة القوةَ على الاكتساح والاستحواذ.
بعيدا عن اختلاف التعابير والمصطلحات، كانت القبائل العربية قبل الاسلام – وبعده أحياناً – تغزو قبائل أخرى وتستبيح حيوانها ونساءها وما تملك وقد تهجّرها من أماكنها ان كانت هذه الاماكن خصيبة أو فيها ماء. الاشعار كانت تغطي الاسباب الحقيقية وتحولها الى شجاعات ومفاخر. وهذه واحدة من خيانات الادب.
ضعف المجاز في الادب القديم لعدم الاهتمام باللامرئي أو لقصدية عدم كشفه. هم انشغلوا بتزييف المرئي ومنحه ابعاداً لا يملكها. ما يملكه هو الفقر والعوز واللاأخلاقية، اذا لم يكن التوحش! في هذه السباقات على المستقبل، أقول على وليس الى، كما هي سباقات فردية هي جماعية خطرة ايضا.
فيها تواجه الدولة او المجتمع، كما يواجه الفرد، عقبة وسطى توقفهم. هذه قد تدمر الفرد أو القائد وجيشه، كما حصل لنابليون بونابرت في الثلوج الروسية. و هذه العقبة الوسطى قد تقلب المعادلة فتنهيه، هو رأس الدولة، وتضيع البلاد. فبدلاً من دولة قوية مقتحمة تسقط ويتقاسمها المنتصرون. واضح اني اقصد المانيا هتلر. امثلة انكسار الجيوش وقتل الملوك او أسرهم كثيرة متكررة في التاريخ.
مشكلة هؤلاء ان المرحلة الوسطى بعقبتها، هذه المرحلة تُفتقَد. وهي هذه التي تبزغ فيها الحكمة ويرى فيها العقلُ المُستقبل وما سيكون. هي زمن الاستقصاء الرؤيوي، زمن صاف يترك العقل فيه تصوراته الاولى ويتطلع، يرى
ما وراءها .
لحظة الاستبصار هذه هي التي انقذت يولسيس بينما غرق اصحابه. لقد رأى أهمية جديدة لعمود الصاري، لخشبة في سفينته، لتنقذه! هذه الانتقالة من البطولة والسيطرة والقيادة الى الاستعانة والتشبث بعمود ميت، غير عاقل، اقتضت منه قطع مسافة طويلة بلحظة، لحظة ادراك ! وهو بهذا التنازل "البطولي" استطاع ان ينجو وأن يظل بطلا و حياً !
هل لهذا علاقة بالاستنارة ؟ نعم هي استنارة من نوع خاص جدا، شخصي جدا، وفي لحظة دفاع الحياة عن نفسها. هذه اللحظة تُقتَدح في المواقف الحرجة، في المحن، في الحرائق أو في العمليات الجراحية. كما نراها رقيقة نادرة في الفن. هي تلك اللحظة التي يلتقطها الفنانون، تلك الجميلة النادرة!
لنعد الى يولسيس، الى حاجته الى عمود، الى خشبة الصاري وهو الشجاع البطل، سيتمسك به وينجح ويصل في المركب. نعم، نجا ووصل ولكن، لكن مشكلة أخرى، النص يقول:
أخيراً، وحيداً و حيداً و حيداً!