السؤال الخطير!

الصفحة الاخيرة 2019/09/02
...

 جواد علي كسّار
 
أذكر أن ذلك حصل شتاء عام 1983م حينما جمعنا ملتقى من ملتقيات الفكر الإسلامي، فقد كان محمد جواد شرّي العالِم اللبناني الجليل شيخاً هادئاً مَهيباً، يتناول الأفكار باعتدال وروية، وينحت كلماته نحتاً، وهو يصبّها في جُمل مؤدّية وواضحة، دون حدّة وصراخ، لكن بنبرة متميّزة، عكسي أنا الذي كنتُ أناقش بصرامة بل بحدّة، مشوبة بتطرّفٍ ونظرة هي في الغالب، أحادية للأشياء والأفكار والمواقف.
كنتُ اؤمن برؤية مناهضة بالكامل للأنظمة في حين كان هو يبحث عن المشتركات، ويدخل إلى هذه الأنظمة من أيّ ثغرة تنفع الناس، ويمكن أن تُحقّق مصلحة للشأن العام. بهذه الروح تناقشنا ساعات عن جمال عبد الناصر وحافظ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافي، وأشهد أنه كان ذكياً في احتواء تباين الرؤى وهضم الاختلاف، واستخلاص المشتركات وما ينفع الناس، دون أن يُشعرني بالهزيمة.
لاغرو، فالشيخ محمد جواد شرّي (1905ـ 1994م) رجل حنكته التجارب وصقلته الأيام والبلدان، إذ عاش في أميركا ومارس دوره من ديترويت، وكان من وراء المواقف الإصلاحية المعتدلة لشيخ الأزهر محمود شلتوت (ت: 1963م) خاصة فتواه الشهيرة، بل كان يطمح إلى تبنّي مبادرات طموحة وإطلاقها لرأب الصدع بين شقيّ الأمة المسلمة، اقرأ فيه الآن أنفاس الراحل محمد مهدي شمس الدين، والآراء الجريئة التي راح يدشنها بدءاً من مطلع تسعينيات القرن المنصرم حتى وفاته سنة ألفين وواحد، خاصة في جوانب نظام الحكم والاجتماع السياسي، وفي تأسيسيات المصالحة بين اتجاهات الإسلام الحركي والأنظمة القائمة، ضمن ستراتيجيته التي نظّر لها واشتهرت تحت عنوان المتحد العربي ـ الإسلامي.
بالعودة إلى الشيخ شرّي رأيته يتأبّط كتاباً ضخماً من مؤلفاته باللغة الإنكليزية، يتخطى الخمسمئة صفحة. سألته عن الكتاب، فذكر لي مباشرة ودون لفٍ ودوران، إنه أنساق إلى تأليفه قسراً دون إرادة تفصيلية منه، جواباً على سؤال حاصره طويلاً، وأرّق عليه وقته، وألحّ على نفسه وعقله باستمرار، والسؤال هو: ما الذي حصل في أمة الرسول، حتى انقلبت هذا الانقلاب الكبير على رسالته ونبوّته، حين انبرت لقتل سبطه وولده الحسين(ع) وأسرته، تلك القتلة الفجيعة المذهلة، بعد خمسين عاماً من رحيل جدّه؟!
سؤال منطقيّ وجيه لم يشغل ذهن شرّي وحده، بل استفزّ عقول الباحثين والمفكرين، واستنفر جهودهم في كلّ عصر ووقت، فاجتهدوا في الجواب وأنتجوا أطاريح كثيرة، فكان منهم في عصرنا هذا، ما قرأناه في إجابات محمد حسين كاشف الغطاء وهبة الدين الشهرستاني ومحمد جواد مغنية وعبد الله العلايلي ومحمود العقاد ومحمد باقر الصدر ومحمد الصدر ومرتضى مطهري ومحمد باقر الحكيم وغيرهم عشرات، من الذين توزّعت إجاباتهم بين التحليل السياسي والاجتماعي والثقافي والنفسي، وحتى الجغرافي والعرقيّ القوميّ.
القضية الأساسية، هل هذا السؤال تأريخيّ مات وانقضى، يرتبط بأمة من الناس مضى أوانها؟ أعتقد جازماً أنه سؤال سننيّ وجوديّ يتصل بالحاضر كصلته بالماضي، فالحسين(ع) يمكن أن يُقتل بأيدينا ليس جسداً، بل مبادئ وأهداف وقيم وسلوك، فلنكن من أمرنا على حذر!