يصرّ الشاعر شكر حاجم الصالحي على تقديم تجربة شعرية جديدة قائمة على الانصات ، فهو من الشعراء القلائل الذين اشتغلوا على تجليات الذات ومحاولة جعل النص الشعري مسكونا بكل المؤثرات الماحولية ، وربما لا تعنيه فخامة الّلغة وعلياءها وظواهرها البلاغية بقدر ما تنطوي عليه شعرية الموقف ، وشعرية الاحساس المليء بالحدث ، وبمجمل ما قدمه من تجارب في السنوات الأخيرة ، نلمس بعض الخصائص المتفردة التي جعلته يدوّن ويبرز بعض التحولات المعاشة لديه ، فكانت مجموعته الجديدة (هل هذا هو أنت ؟ / 2019) تطرح فكرة الانصات من خلال اثارة الاشياء بعين الراوي ، ولكل نص تشكلاته ومرجعياته وحكايته الخاصة ، في الحقيقة يمارس الصالحي موقفه من الواقع عبر النصوص التي قرأناها ، وكان دأبه الواضح يكشف عن انكساراته ، وعن حالات التنبؤ المهووسة ، ولم يدرك لعبة القصيدة حين تفضح كوامنه ، فهو يتعامل بوصفه مركزاً ، وبوصف الآخر القارئ /المتلقي ، متصنتاً..
اشتباك بالحدث
المجموعة الشعرية (هل هذا هو أنت ..؟) ، لم تخرج عن سابقتها (لوضوحي أمضي)، فهي تستدعي الشخوص والشواهد والمشاهد ، وتستحضر الـ(أنا) ، وتشتبك بالحدث وتطرح الأسئلة ، وتستنهض خاصية التدوين الذي يمارسه كل يوم ، فهل هي اسقاطات (الأنا الشعرية) ، عبر خاصية المدوّن الشعري ..؟.. أجزم ان القصائد عبرت عن قصدية واضحة وواعية ومثيرة ، بمعنى ثمّة مغاليق يفترضها ولكنها فائضة المعنى ، ومن خلال عنوان المجموعة ، عبرت الجملة الاستفهامية عن السؤال الوجودي ، فحين نقرأ (أَنظُر في المرآة وأبكي / هل هذا هو أنت ؟) (ص5) ، اكتمل المعنى الدلالي لذاتية الشاعر ، واصبح النص الشعري (انصاتي /سيري)، ولو قال (نظر الى المرآة وبكى) لأختلفت وظيفة النص الشعري واصبحت القصيدة
مفتوحة ..
ومع استدعاء الشخصيات والأمكنة وبعض الحالات المثيرة للحدث ، تصبح القصيدة ذات وظيفة كاشفة ومنصتة لحالات الوصف ، انطلاقاً من العنوان ، مرورا بالتفاصيل ، وبهذه الحالة لم تكن القصيدة مؤطرة بما يسمى بثرية النص ، بل بتصنيف العتبة التي جاء بها (جيرار جينت) ، مؤكدا التكامل النصي للعنوان والمضمون والخاتمة ، لذا ، قرأنا بعض الشخصيات المدونة والمتداخلة مع العنوان وهي تشكل بعدا دلاليا متناسقاً كالاسماء (لأنني عرفته / حميد سعيد)، و(أيتها السدة معذرة / الى د. جلال خضير الزيدي) و(اساطير .. الى ناجح المعموري) ، و(يا صاحبي / الى كريم الموسوي) ، و(خذني/ الى المهندس سيليم الربيعي) ، و (لمَ ياكريم / الى التشكيلي الراحل كريم العامري) ، و(في رحاب المبدعين / الى حسين نهابة) ، وايضاً في الأمكنة كـ(ليل تبريز) و(جالوس) و(برج ميلاد) ، وفي الحالات المثيرة للحدث كـ(محض رصاص /الى الشهيد الحي علاء مشذوب) و(كرمنشاهية) و(لا تبتئسي) و(المتصابي)..
رؤية الذات
كل هذه التصنيفات ، او بالاحرى القصائد التي جعلناها في اطار التصنيف ، يمكن اعادتها وفق تقسيم فني ، وبتراتب محسوب ، لا أن تكون مجملها مطروحة وهي متباعدة المواضيع ، على الرغم من وضوح اللّغة الشعرية ، هي لغة سلسة تستدعي العوامل الحسية والهاجسية بغية الوصول الى العمق الدلالي للمعنى ، وفي منطقة اخرى تدلنا النصوص الى مناطق اسقاطات فرضها الشاعر نفسه ..
من زاوية اخرى ، قدمت المجموعة الشعرية (هل هذا هو أنت ..؟) بعض النصوص المتعالقة بالذات وباسلوب شعري غنائي ، فكانت اشارة الى التعبير عن الحدس والوجود من خلال استعادة رؤيا الذات عبر تأمل الوجود ، فكانت (قلق ..، ويا بنت أنانا ، والمرآة ، و أوجاع ، وليس سواك ، وغيرها) قصائد تتناظر معاً بوحدة موضوعية ، نقرأ في قصيدة (ليس سواك): (مثقلة تركض أيامي / بظنوني وشظايا آثامي / تهزأ مني سبعيني / ولواعج أحزاني وسقامي / وأمامي متسع من غائض أوجاعي) ص63. أو نقرأ في (أوجاع): (اشكو من وجع الذكرى / وهموم طارئة تترى/ فيباغتني ليل الأخطاء/ بشواهد دامغة) ص59. حالة التلذذ الواصف بالألم المتكرر في القصائد ، يجعل الآخر/ المتلقي في حالة انصات ، وبالتالي تخضع شعرية الشاعر الى الانتباهة والى سياق (متني / نصي) كاشفا عن روي (سير ذاتي)، إذ هناك صراحة الاسماء والأمكنة ، يرافقها الاحساس العميق بالاشياء المكتوبة ، فهي (مسرودات شعرية) وحقائق اشتبكت مع اللّغة فكانت حالات شعرية بطريقة
القصائد ..
المحور العقلي
في تجربة الشاعر شكر حاجم الصالحي هذه ، ولكي تدخل ضمن المعيار النقدي ، سأستعير المحور النقدي (التلقائية والذات) الذي جاء به الناقد فاضل ثامر ، مؤكدا حضوره وفاعليته ((فلم يعد المحور العقلي ، محور الصناعة الشعرية الواعية يمارس دورا هامشيا عابرا .. أصبح مجرد ذكرى باهتة ترفد الشعرية بحدها الأدنى من مستوايات الحداثة الشعرية))(فاضل ثامر /الصوت الآخر/ ص350)، وهنا تصبح القصيدة ذات أبعاد مضمونية واعية ، قصيدة لا تخضع للذهنية المتعالية بوصفها برهجة لغوية ، انما تكتسب من الواقع كل الممارسات والاستعارات التدوينية ، وربما تجد في نص واحد العديد من العناصر المشتركة والمشتبكة معاً ، لتعطي برهاناً واضحاً بأن القصيدة جزء من الواقع، او جزء من انتمائنا للواقع ، وان الاحساس بها يكمن من دوافع واعية لهذا
الواقع..