ريسان الخزعلي
يواصل الباحث القدير جبار عبد الله الجويبراوي، مشروعه البحثي الذي تأسس منذ عقود وتأصل في التسعينيات من القرن الماضي واستمر حتى يومنا هذا باندفاعٍ يُشير الى قوّة تمسكه الإنساني/ الثقافي بتاريخ مدينته، جذوراً وأصولاً، حضارةً وجغرافيّةً، تاريخاً ومدوناتٍ، إنساناً ومعتقداتٍ.. إلخ من التوصيفات النبيلة التي تُليق بالإنسان العراقي، سليل الحضارات المتعاقبة، السومرية والبابلية والآشورية. حتى أصبح يوصف بأنه ذاكرة المدينة بعد أنْ أثقل المكتبة العراقية بإصدارات تشعُّ ضوءاً غاب زمناً عن بصرٍ أُريد له أن يصابَ بالقصر، وهكذا طالعَنا بالكثير الذي كنا نراه ونسمعه خطفاً، إلا أنه سحبنا عنوةً الى المستقر الأخير، الماء والطين والقصب: (تاريخ ميسان.. دراسة تاريخية اجتماعية سياسية ثقافية، سلاماً أيتها الأهوار، تاريخ التعليم في ميسان، تاريخ الطب في ميسان، معتقل العمارة 1941 – 1945، محاضرات الى شباب الأهوار، في الطريق الى الأهوار، الميسانيّون من بُناة الحضارة في بغداد، التعايش السلمي في العراق – ميسان أنموذجاً).
في كتابه الجديد (هور الحويزة – دراسة جغرافية تاريخية، بشرية) يكون الباحث قد كشف عن الأسرار العميقة التي يكتنزها هذا الهور الكبير الذي يشغل معظم الحدود الشرقية لمحافظة ميسان، كشف عن التكوين الأول – ميسان مملكة الأهوار الشرقية في العراق القديم (قبل الإسلام)..، الجغرافية التاريخية للأهوار، نشأة هور الحويزة ومدينة الحويزة، موقف عشائر الحويزة من الاحتلال البريطاني، اليشن في هور الحويزة، أنهار هور الحويزة، النشاط الاقتصادي في هور الحويزة، التوزيع السكاني، الطبعة الوراثية لعرب هور الحويزة، شخصيات ووجهاء هور الحويزة، أعلام اهتموا بالأهوار، السياحة في هور الحويزة، مستقبل الهور، الشعر والغناء في هور الحويزة، التكييف القانوني للأهوار العراقية في لائحة التراث
العالمي.
ما يميز هذا الكتاب عن غيره، هو قدرة الباحث على التقصي واعتماد الوثائق والمصادرالمتنوعة، عراقية وعربية وعالمية، فضلاً عن أطلسه المصوّر الخاص، وهكذا كان كلُّ شيءٍ بمسنده التاريخي والجغرافي بعيداً عن التأويل والإنشائية الجاهزة. يقول الباحث في مقدمته التي تعزز ما جاء في استهلال القول عن التأسيس
والتأصيل:
"الأهوار ولدتُ فيها، وأُجليت عنها في صباي مرغماً، ابتعدتُ عنها وطراً، إلا أنَّ مخيلتي الفتية ظلَت قابضة على حفنة من بقايا صور وحكايات، عدّتُ إليها وأنا شاب في العقد الثاني، عندما عُيّنتُ معلماً في هور الحويزة في أواسط الستينيات". انتهى).
إذنْ، هكذا تطورت المخيلة الى واقعة ومعايشة وتماس، وبالتالي الى تجربة كتابة مكتملة، يكون فيها الكاتب شاهداً ورائياً وموثقاً مبدعاً مشتبكاً مع الطبيعة وأعصاب الناس، حتى صحَّ قول السيناريست والقاص ضاري الغضبان في كلمته على الغلاف الأخير من الكتاب، بأنَّ جبار الجويبراوي، المؤرخ والباحث والأديب والشاعر والتربوي والإنسان، رجال برجلٍ واحد.
إنَّ كتاب (هور الحويزة – دراسة جغرافية، تاريخية، بشرية) يعود بنا الى ملحمة كَلكَامش في وصفها لأهوار جنوب العراق 1200 ق . م: "وهل يرتفع النهر ويأتي بالفيضان على الدوام..؟ والفراشة لا تكاد تخرج من شرنقتها، فتبصر وجه الشمس حتى يحلُّ أجلها، ولم يكن دوام وخلود منذُ القِدَم .(
الجويبراوي في بحثهِ هذا يتطامن مع كَلكَامش في البحث عن الخلود، لكنهُ خلود الأهوار والجنوب – مستقر المياه الأخير، وهيبة (اليشن)
المسحورة.