أواخر صفر.. ادعاءات أم موروثٌ

ثقافة 2018/11/11
...

بغداد/ لمياء نعمان
تتهيأ والدتي مع نسوة الجيران بعد انقضاء شهر صفر بتحضير الأواني والزجاجيات والتٌنكة الفخارية أو البستوكة الصغيرة والتي تضع فيها بعض النقود المعدنية المتداولة حينذاك لكسرها عند باب الدار ليحصل الأطفال على بعض تلك المبالغ الصغيرة.. كنا نتسابق في حمل تلك الحاجيات وننشد بفرح (يا محمد ياحبيب راح صفر وهل ربيع) والمقصود ولادة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام في شهر ربيع الأول.. ويكون مشهد كسر الأواني الفخارية والزجاجية مدعاة للفرح والسرور ليعلن فيها انتهاء فترة الضجر والنحس الذي تعتقد العائلات أنه يلازمها, ويتزامن مع هذه المراسيم إشعال نيران في موقد أو في مكان آمن يتراقص الأطفال من حولها لتتصاعد الأصوات بالدعاء والنذور, بعدها تقوم النسوة بكنس ولملمة المكسور وكنس الجدران ودواخل البيوت حتى ينقضي شهر صفر في ذاك اليوم.مع مضي الزمن اختفت مثل هذه المعالم والتقاليد, فالبعض من الناس أصلا لا يهتمون بقدوم أي شهر سوى الأعياد والمناسبات الدينية، وبرأيي كان المجتمع في السابق يعد شهر صفر منحوساً وحسب ادعائهم فلا يقومون بأي تعاملات تجارية ومالية ولا أي مشاريع تقام ولا بيع ولا شراء ولا خطوبة ولا زواج ولا أي شيء مفرح.
بعض من الشخصيات تعد هذا التقليد مرتبطاً بجذور أفكار أيام الجاهلية وهو جهل وتخلف والبعض الآخر يعدّه موروثاً شعبياً ارتبط بحياة العراقيين الذين يبحثون عن الأمل والضحكة والمتعة ولمة الجيران لتكون مناسبة يتذكرها الأهل على مدار الأعوام.
يشارك في الحديث علي الخفاجي ليقول: "هو تقليد كما هي الحال في مدن العالم والتي يقوم شعبها حتى بدعس الطماطم ورميها على المشاركين في الشوارع وهو بمثابة كرنفال, أيضا في اسبانيا يطلقون الثيران ويركضون أمامه لتلاحقهم ويستمتعون رغم الأذى الذي يصيب بعض الأفراد, بعض الشعوب أيضا تستذكر ماضيها برمز وحكاية أو أسطورة لتقيم مهرجانات كبيرة تفرح بها، ولا ننسى افتعال أعياد مثل هالوين وعيد الحب والشكر وغيرها، لتسهم بلدية المدينة بقدر كبير بتهيئة مستلزمات الاحتفال بتزيين الشوارع وترتيب ملابس المشاركين وحضور الكثير من الناس بملابس جميلة وغريبة ليشاركوا بالمناسبة".
يحدثنا د.محمود الجبوري (باحث اجتماعي ونفسي): "الناس تحب استذكار الماضي بفرحه وحزنه وحكاياته ومثل هذه التقاليد لا تضر بأحد بل بالعكس تثير فيهم الفرحة والبسمة، إذ يتم كسر الأواني الزجاجية من دون أذية أحد وهذا وحده شعور بالانتصار والفوز وكأنما أخرجوا الشر والنحس من النفوس والبيوت وكل هذا يحصل قبل الغروب لينهي حال الضجر والقهر الداخلي للفرد والتي ترتبط بالنحس حسب اعتقادات متداولة قديمة".
والحقيقة كما يقول الشيخ مثنى الحيدري: إنَّ "هذه التقاليد ليس لها مصادر شرعية وليس لها علاقة بالدين على الإطلاق ولم تذكر في أحاديث الأولين من رجال الدين والصحابة وأولي الأمر.. فالعرب في الماضي كانت تُعظم الأشهر الحرام رجب ومحرم لأنَّ الحروب تضع أوزارها ويعم السلام والطمأنينة فلا قتال ولا إغارة على القبائل ولا موت ولا سبَي للنساء.. لذا فمجيء شهر صفر ينذر برجوع المحذورات فتعود الحروب والقتال وسفك الدماء من دون أي اشتراطات ولهذا السبب يتشاءمون من قدوم صفر لأنهم يفقدون الأمان والسلام، ولكنَّ الأساطير والحكايات تتداول وتنتشر عن كل حادث ومصيبة تحدث فينسب لشهر صفر كل سيئ غير مستحب".
السيدة زينة شاكر الصفار (باحثة اجتماعية) تحدثنا بفرح وتقول: "نحب هذه العادات فهي لأسلافنا ولا يهم إنْ اشترينا أو لم نشتر أو تم تأجيل الزواج والمشاريع والتعاملات النقدية والتجارية وغيرها، فالجميع يتداول هذه الشعائر من دون معرفة جذورها وأسبابها وهو تقليد اجتماعي جميل يسر أكثر الناس، إذ يتم تعزيز قيمة الموروث الشعبي وليس له علاقة بالحزن والتشاؤم فحياتنا مليئة بها، ثم أن كل بلد له تقاليد وعادات يحاول تنميتها وتطويرها للكسب التجاري والإعلامي ولتُعبر عن جزء من حضارتهم القديمة، فكثير من الشعوب تبحث عن أي موروث يستحق إحياءه ليقيموا الاحتفالات والكرنفالات لغرض المتعة والفرح وكلها أفكار من البشر".
وتضيف "كما أننا نود تعريف أولادنا ببعض الحكايات والأساطير الجميلة لترافق تقاليد مجتمعنا، وبصراحة شديدة كنت وبخجل أقوم بتحضير الأواني وكسرها وبمشاركة بعض من جيراننا وبعضهم يستغرب لهذا التصرف، لذا بدأت تتلاشى من ذاكرتنا خاصة بعد أحداث العراق في السنوات الأخيرة".