فكرة غائمة أقرب إلى ضباب تنعدم فيه الرؤية

ثقافة 2019/09/14
...

عبدالزهرة زكي
 
كنت قبل أيام أتأمل صورة لآينشتاين، وكان فيها بمكتبه، على طاولة عمله. كانت الصورة منشورةً ضمن مقال بالإنكليزية، وكان المقال يتحدث عن تقرير فرنسي أنجزته خبيرة فرنسية، كاثرين فوهس، بمؤازرة فريق عمل من متطوعين ساعدوها باستطلاع للمقارنة ما بين الأداء في مكتبين؛ الأول منهما كان فوضوياً، فيما بدا ثانيهما أنيقاً ومرتَّباً. وقد خلص فريق البحث إلى نتيجة أن الأشخاص الذين كانوا في المكتب الفوضوي قدموا أفكاراً أفضل من الأشخاص الذين كانوا في المكتب المرتّب.
في صورة آينشتاين التي كانت أمامي كانت طاولة عمله مكتظة بالملفات الموزعة على غير انتظام. وكان تقرير الفريق يريد إقامة مقاربة ما بين ظروف أداء العباقرة وظروف المشتغلين بحقول الأدب والفن. واقعاً كان عمل آينشتاين في العلم ينطلق من خيال عميق وتأمل أعمق أكثر مما كان عملاً تجريبياً. كان آينشتاين يقول:” انظر إلى الطبيعة بعمق، فستدرك بعد ذلك كل شيء بطريقة أفضل”.
لكن في غير الشعر، خصوصاً في الكتابة الصحفية، حيث الصحافة مهنتي، لا أعبأ بالكثير من هذه الإلزامات التي لابد منها في كتابة الشعر. كثيراً ما أكتب مقالي الصحفي، وبالأخص غير الثقافي، حتى حين أكون في مقهى أو قاعة العمل، ما بين كثيرين.
في مثل هذه الكتابة، غير الشعرية، عادةً ما يكون الهدف واضحاً بالنسبة للكاتب. ثمة فكرة متاحة في باله، قد تكون ابتدائية، عما سيفعله في أثناء الكتابة، ثمة تصور يكاد يكون جاهزاً عن النتيجة التي يمكن أن يبلغها بالكتابة. ربما بعض هذا متاح في الشعر العربي القديم، وما يتشبّه به من شعر معاصر. غالباً ما تكون هناك إرادة مسبقة في تحديد هدف العمل الشعري المراد تأليفه، وغالباً أيضاً ما تكون هناك إرادة وتصميم مسبقان للشروع بالكتابة. 
لكن لا كتابة شعرية تبدأ من الصفر، من عدمٍ مطلق. دائماً هناك بداية.
وبدايات الشعر، بداية تشكّل القصيدة، كثيرة. في بعض الأحيان أقدِمُ على الكتابة ليس من موضوع محدد، إنما من جملة ما، أو من فكرة غائمة، هي أقرب إلى الضباب الذي تكاد تنعدم فيه الرؤية. هذه هي الدعوة التي يقدّمها الشعر للشاعر لدخوله في عالمه، عالم الشعر.
لا خيار سوى الاستجابة لهذه الدعوات الغامضة. هذه دعوات هي ما يخلق تقاليد الاستجابة لها، لا تنفع معها أية استعدادات وأية تقاليد، وهي لا تحتاج إليها أساساً، إنها دعوات تأتي من حيث لا يتوقع مجيئها. لا خيار سوى الاستجابة الفورية، مجرد التأخر في الاستجابة سيكون تحطيماً لكل شيء؛ الضباب لا ينتظر طويلاً.
أستعيد هنا التعبير الشعري التالي لهيرمان هيسه عن الضباب، وعن الوحدة فيه. أتوقع أنه مما كتبه في شبابه، في المرحلة التي كان يسعى فيها من أجل الوحدة. الحياة في الضباب هي ما تساعد على الظفر بهذه الوحدة التي تتطلبها كتابة الشعر:
ما أعجب السيرَ في الضباب.
الحياةُ وحدةٌ.
فليس هناك إنسانٌ يعرفُ الآخر.
كلُّ إنسانٍ وحيد.
في الخارج من الضباب، قبل أن تكون فيه، أنت لا تستطيع تخمين ما الذي ستصادفه أثناء التوغل في محيط الضباب وأعماقه؛ الأشياء، والاندهاش بالموجودات يحصل حين نكون عندها، في مكانها في عمق الضباب. لحظة بلوغنا الشيءَ (التعبير عنه) هي لحظة انجلاء الضباب عن شيء في الداخل من الضباب، لحظة اقترابنا وتماسنا بدهشةٍ ما وبتعبيرنا عنها داخل ضباب الحالة الشعرية التي نكون فيها.
لا يستطيع الشاعر حذفَ ما تقع عليه يده في عتمة الضباب (اليد تكتشف)، إنه مصغٍ فقط لاندهاشه أو لا مبالاته بما تصادفه اليدان، وبما يتولّد أو لا يتولد عن ذلك الإصغاء.
حياة من التفاعل التي لا يمكن وصفها ما دمنا الآن في الخارج من ضباب الحالة الشعرية. حاولتُ مقاربتها هنا، إنما بتوسّل صيغةٍ طمحت إلى أن  تكون مماثلة للحالة ذاتها. وهذا حال قد يكون ضرورياً حتى في قراءة الشعر؛ تسمو القراءة، وترقى، كلما اقتربت من طبيعةٍ تضارع بها الشعر نفسه، حيث لا يُقرأ الشعرُ إلا بوجدان شعري جدير بالموازاة والتقابل.
ستكون مزيجاً من سعادة وعناء تلك اللحظات والساعات المستغرَقة لكتابة نص شعري. لكن ما هو أكثر سعادة من مجرد كتابة نص شعري وأشد عناءً من لحظات كتابته هي المرات التي نكون فيها بصدد حالة شعرية تستدعي عدم الاكتفاء بنص، المرات التي يجد فيها الشاعر نفسه أمام تجربة لا تُستَنفد بنص أو نصين. حصل لي مثل هذا الوضع مع (كتاب الساحر)، ثم مع العملين الشعريين المكوِّنين لكتاب (طغراء النور والماء)، وأخيراً مع ديوان (شريط صامت). كانت هذه تجارب تتطلب الدخولَ في حالٍ مستمر من السعادة والعناء لا فكاك منه حتى في الزمن الفاصل ما بين نصّ وآخر إلى أن تحين لحظة الانتهاء من التجربة والخروج من حال الضباب الشعري المولد لها، إنه ضباب طويل الأمد بالنسبة لنا نحن الذين نحيا في بيئة جغرافية ومناخية لا يظهر فيها الضباب إلا لساعات قليلة ونادرة.
هل من (تخطيط) بمثل هذه الحالة الأخيرة؟ هل من إرادة مسبقة للكيفية التي سيكون عليها الكتاب أو الديوان، ولموضوعٍ محدَّد سيكون جامعاً له؟
لا؛ ما يحصل هو تمدّد دعوة الشعر للشاعر للمكوث في الضباب، استطالة زمن الضباب، بما يتيح البقاءَ به والوقوف على هِبات الشعر القادمة من سُتُر الضباب.
لا يعرف الشاعر في أي حين ستأتي واحدة أو أكثر من تلك الهبات، إنه البقاء والارتهان في حال من الطوارئ غير المخطط له، هذا بعض دواعي العناء، عناء الشعر، فيما تظل قيمة السعادة رهناً بالظفر بنوع الُّلقية التي سيضع الشاعر يده عليها من بين لقى الشعر، النادر منها والشائع، الرفيع والوضيع. منذ تسع سنوات تقريباً، بالضبط منذ عام 2011، وجدتُني في وضع آخر للكتابة، كنت أكتب فيه بانتظام يومي. حصل هذا بعد تفرغي من العمل الصحفي اليومي. في هذه الفترة أنجزت ما لا يقل عن ستة كتب في مجالات مختلفة، سوى مجال الشعر، وقد صدر منها حتى الآن كتابان؛ هما (واقف في الظلام) ثم (طريق لا يسع إلا فرداً).
هذه كتابة أخرى، كانت تُنجز بظروف أخرى، غير ظروف كتابة الشعر، وبكيفيات أخرى أيضاً. منذ عام 2007 لم أنجز أيَّ نص شعري أو مقال على الورق، منهياً بذلك عمراً من الكتابة بالقلم والورق. لقد تحولت تماماً من الكتابة بالقلم إلى الكومبيوتر، وكان هذا حتى مع كتابة الشعر.
الخدمة التي تتيحها إمكانات (نظام وورد) عبر الكومبيوتر هي مما لا يمكن الاستغناء عنه حتى الآن. قلت (حتى الآن)، ولا أدري ما الذي ستخبئه التكنولوجيا من خدمات مستقبلاً، تؤثر فينا وربما تغيّر، من حيث ندري أو لا ندري، بأساليب وطرق تعبيرنا، وحتى برؤيتنا للعالم 
والأشياء..