عن فضيلة الإطار

ثقافة 2018/11/11
...

ياسين طه حافظ
 
قد يبتسم القارئ للعنوان. فهو عموماً خلاف المتفق عليه وما ألفنا من الكلام عن الحريّة وكسر القيد، أو قد يقول معترض: هل اكتفينا من فضائل البشر لنتحدّث اليوم عن فضيلة الإطار؟
أقول نعم، فضيلة، بل مجد الإطار! أقول هذا وقد فرغت من صفحة ملأى كلمات ولم أجد موضوعاً ولا مسألة واختلط الكلام بما حوله. هو فيض كلام راكد ليس ما يضيء فيه فاتجه له.في حال كهذه لا نطمح بعمق، لا نطمح بسمكة نصطاد ويستحيل العثور على لؤلؤة أو لُقية تحت هذا الوشل. فلكي تكون حديقة لا بدَّ من إطار يعزلها عن الغاية أو عن القفر. وإن وجد إطار فلا بدَّ من شيء نحيطه أو نحميه، لنصونَ جماله، روحه، امتيازه فلا يختلط بالعراء الكبير أو ليكون لنا!
سألتُ نفسي يوماً : لماذا أكتب عن "هذا" أو "هذه" إنساناً، شجرة، زورقاً، حالا إنسانياً حزناً أو مسرّة؟ السبب لأنّي اتصلت منه بمعنى. شيء منه لامس روحي، أشار لي أو وعدني بكشف .. أسباب شتى لذلك، فأردت أن أحميه، أن أهتمّ به، أن أعزله عن المتاه فلا يضيع أو لا يظل مضاعاً.
ما نرسمه نخرجه من فوضى العالم إلى التنسُّك إلى المجد الخاص، إلى أن يكون له عالمه، ليطمئن أو لنطمئن عليه. إذاً، أنا حامي حياة ومنقذ جمال وقد استضفت ما لم أشأ أن يتيه أو يُنسى. هل صنعت له معبداً، أم هالة أم وجوداً؟ في كلّ حال قمت بما أوجبته عليَّ الحياة وروح الفن. اعترضني سؤال، اعترض لطيفاً بلا خشونة ولا ردع: وهل للحب إطار؟ إطار يمنعه من الاتساع، من التماهي، حتى يصير فاعلاً حاضراً مالكاً وعلى وشك اتصال باللاحدود له أو بكمال انتهاء؟ أقول: خلوة الحب ملاذ. وللملاذ إطار اطمئنان من العادي من الفوضى، من الضد والمختلف. الغرفة تغلق بابها ليكتمل إطار العزلة وحتى يبدأ فعل الحب واحتواء لهفة الآخر بجنون أو بمنتهى وعي الرغبة. اكمتال التجربة يشترط حماية، عازلاً، إطاراً، ولكي يكون الحديث عن الحب خالصاً، يجب أن أبعد كلّ شأن، كلّ شائبة، كلّ نشاز، كلّ شاغل..، ليكتمل!
ما لا نظام له، لا إطار له، يبدو الكلام صادماً لمن تملكهم الهيام بالحرية وادّعاء بذل كلّ شيء من أجلها. لكن الحرية تريد عملاً متقناً وكلاماً جميلاً وفناً. كلّ جزء من العمل قائم بحساب ويسند كلّ العمل الفكرُ والرؤية الكاشفة. إطلاق التعابير بلا حساب ولا ضرورة والهوس من بعد بانهيالاتها، قد يكون لهواً ساخناً، حماسة، رغبة صعود أو وصول أو طمعاً بمزيد. لكن هذه قد تكون متاهاً أو فيض هياج! الفن يريد عقلاً سانداً، يريد طاقة تعيد اكتشاف العالم فنراه جديداً. يعيد حضور الكلمة وكأن ولدت الان، او هي لهذه الجملة!  الفن يُطلع من العالم المرئي عالماً لم يُرَ من قبل، فتأخذنا في رؤيته الدهشة، فنحن فجأة من الغياب إلى الرؤية. وهذا لا يتمّ في الصخب، لن يتمَّ تحت سطوة الاعتيادي والمستهلَك، لكن في عزلة مجيدة، وحمى. احتجنا إطاراً لنهيئ جواً، بيئة تصون الغرابة، يشع لنا الجوهر الدفين.
عام 160 ق.م ظهر كتاب ابوليوس اليوناني "التحولات" والذي ينتهي بنشيد "إلى ربّة القمر":
"استيقظ لوسيوس على شاطئ سانكريه إثر خوف مفاجئ، فتح عينيه، شاهد قرص البدر يظهر فوق أمواج بحر إيجه، ركض باتجاه البحر وغمس رأسه في الأمواج سبع مرات. عندها جرؤ على استدعاء ملكة السماء، انتبهت إليه، وإذ رآها أخذته غفوة وظل سادراً على شاطئ سانكريه .." ما وراء ذلك الحدث؟ وراءه طلوع الربَّة القمر فوق أمواج ايجه. وراءه طلوع قصيدته. اغتسل ليرى ويبدأ الكلام ومن سحر بعدها غفا!
هي كما ترون خطوات، درجات وصول. كلّ ذلك ضمن تجربة، التجربة ضمن إطار وأربعة عناصر هي : شاطئ ايجه أمواجه، الربّة القمر والرائي الذي من دهشه غفا. وإطار فيه أربعة أحوال : الاستيقاظ، رؤية البدر، التطهُّر سبع مرات في الموج.
لم نكن في متاه. رسم الشاعر حالاً قبل أن يقول، بلا إطار نشعر بالوحشة، بالهجر الأبدي المخيف. الانتباه مطلوب دائماً فالحقائق غير جمال الكلمات.