دونا هاراوَي وثنائية {الخيال/ الواقع}

ثقافة 2019/10/27
...

نصير فليح
 
 
ثنائية أو اشكالية الخيال/ الواقع من الاشكاليات العريقة في الفكر البشري. وقد تنوعت الآراء حولها عبر التاريخ بما لا يمكن استعراضه ولا حتى احصاؤه، ومن ذلك موضوع الحدود التي تفصل بين الاثنين. فالوعي البشري بمكوناته المتنوعة (الذاكرة، الانتباه، التفكير، الخيال..) تركيبة أبعد من أن تكون ذات أطر محددة أو علاقات محسومة، وعناصره هذه تتشكل وتعيد تشكيل نفسها باستمرار

و»الواقع» نفسه المحيط بالانسان فيه من المكونات والعلاقات ما لا يحصى. وبين ما يظهر لنا من ظواهر ونراه باعيننا ونعيشه، وما يكمن وراء تلك الظواهر، عوالم شتى.
 
دونا هاراوَي 
واشكالية الخيال/ الواقع
دونا هاراوَي Donna Haraway  (1944-) المفكرة البارزة المعاصرة، لها مقارباتها الجميلة والعميقة في هذا الشأن. فهي بفكرها الذي يشمل مجالات متنوعة: البايولوجيا والفلسفة ودراسات السايبورغ وتاريخ العلم وفلسفة العلم والتكنو-علم technoscience والدراسات الانسانية والعلوم الاجتماعية، تمثل طيفا من النطاق الفكري الواسع والمتنوع.
ويمتاز فكرها بتركيز بارز على اثر التكنولوجيا والتطور التقني على البشر ومجتمعاتهم، وتشكيل السمات الجوهرية المتعلقة بالانسان والمجتمع، سواء بتغلغل العالم الرقمي والتقني في المجتمع، او تلك التطورات التي اخذت تضيف عناصر صناعية للجسد البشري نفسه – مثل الأطراف الصناعية الالكترونية التي يمكن توجيهها عصبيا، او الأجهزة الأخرى مثل أجهزة تنظيم ضربات القلب وغير ذلك – وترى في كل ذلك مؤشرات على تغير حاصل بالفعل في واقعنا الحالي، هذا من جهة، ويَعدُ بتغيرات جذرية كبرى في المجتمع والانسان مع استمرار هذا المسار من التقدم التكنولوجي من جهة أخرى، وهو الامر الذي يبدو انه قادم لا محالة، وليس هناك في المدى المنظور ما يعيقه.
وفكرها يحمل الكثير من سمات ما بعد البنيوية poststructuralism وما بعد الحداثة ومن التفكيكية. فمناهضة الثنائيات الجاهزة المتعارفة في الفكر البشري، ومناهضة الجواهرانية وثبات الماهية أو الهوية – اي تلك العناصر الملازمة لتوصيف جوهر شيء ما – عناصر واضحة في فكرها، ومن هذه الثنائيات ثنائية الخيال/ الواقع. 
 
خداع بصري؟
وفي واحد من أقوالها البارزة والمهمة في هذا الشأن، وهو القول الذي نتناوله بتحليل خاص في هذه المقالة، تقول: «ان الحد الفصل بين الخيال العلمي والواقع الاجتماعي هو خداع
بصري».
هذه المقولة «الصادمة» استهوتني كثيرا، بسبب المفارقة والعمق اللذين تنطوي عليهما في آن واحد، التي يصعب استقصاء معناها من دون معرفة بالعناصر الرئيسة في فكر هاراوي. فوجودنا في هذا «الواقع الاجتماعي» وادراكنا له يدخل أولاً ضمن الادراك الحسي والاجتماعي، من قبيل وجودنا الشخصي ووجودنا الجسدي والنفسي وعالم الظواهر التي تحيط بنا ودرجة من الوعي بانفسنا والمجتمع والعالم المحيط بنا. ولكننا نعرف في الوقت نفسه ان هذا ليس سوى «المستوى الأول» الضروري، واذا ما مضينا مع ما نعرفه ولكن من دون أن ندركه حسيا في حياتنا اليومية، من قبيل أن تكون أجسادنا مكونة من خلايا تتكون بدورها من عناصر اصغر واصغر مثلاً، لنصل الى الجسيمات المتناهية الصغر مما يكون العالم، فان صورة العالم هذه – وهي صورة حقيقية مدعومة بالعلم والتجربة – عالم مليء بما لا يحصى من المدارات والمستويات والرؤى، تتفتح على عوالم ومستويات اخرى اوسع بكثير مما نعرفة او ما يمكن لنا معرفته.
وهذا ينطبق ايضا على الاجسام المتناهية في الكبر مما لا نستطيع تحسسه ولا عيشه في «واقعنا الاجتماعي»، مما يستعصى احيانا حتى على قدرتنا على التخيل نفسها، مثل تلك الارقام المخيفة لاتساع الكون الذي  لا نكون فيه الا كما تكون الذرات بالنسبة لاجسادنا. والآن اذا انتقلنا الى عوالم الخيال العلمي، كم ستكون معبرة بالفعل عن تلك العوالم التي نعيش داخلها، رغم كل الغرابة التي ترسمها عوالم الخيال العلم بكل جموحها وفنطازياتها؟
ان النظرة العادية التي ننظر بها الى المجتمع والعالم المحيط بنا وانفسنا ايضا، قد تشبه عدسة مستوية، مقارنة بعدسة محدبة هائلة او عدسة مقعرة هائلة، عدسات هائلة على درجة من النفاذ لا يعود معها ما هو مرئي ومحسوس مرئيا ومحسوسا من خلالها، حيث تستبدل صورة الاشياء والمدن والناس والشوارع وكل ما نراه بمستويات وفضاءات ومدارات أكثر غرابة بكثير. ألن يكون حينها مسوغا ان نقول ان الحد الفاصل بين الخيال لعلمي والواقع الاجتماعي هو نوع من «خداع بصري»؟ بل أن عوالم الخيال العلمي يمكن لنا تخيلها، بينما غرابة الوقائع المحيط بنا، في العمق، اوسع حتى من قدرتنا على الخيال؟
 
الوحوش المتعددة الرؤوس!
ما قلناه لا يعني بطبيعة الحال اغفال الحقائق او الشروط العينية التي نعيش فيها كبشر داخل هذا العالم والمجتمع، بكل ما  فيها من آلام ومسرات وشقاء وآمال، ولكن هاراوي تسعى دائما الى دفعنا ما وراء الآفاق العادية للوعي المألوف، بما في ذلك وراء التعارضات الثنائية من قبيل الطبيعة/ المجتمع، الانسان/ الكائنات الاخرى، الخيال/ الواقع.
ففي مقولة اخرى لها تعبر عن هذا تعبيرا بليغا آخر تقول: «ان النظرة المنفردة تولد أوهاما أسوأ من النظرة المزدوجة أو من الوحوش المتعددة الرؤوس»! وهو ما يعني، ضمن سياق فكر هاروي، ان لكل هذه النظرات، المنفردة والمزدوجة والتعدددية، أوهامها، و»الوحوش المتعددة الرؤوس» هنا تشبيه لحالة الرؤية المتعددة، عندما لا تعود الماهيات وجواهر الاشياء سوى علاقات لا نهاية لها، تكون نقاط التقاطع فيها، في حالة حركة وتشكل دائمين.
«الوحوش المتعددة الرؤوس» يمكن ان تحيلنا بقوة أيضاً الى النظرة التفكيكية، التي لها حضور مهم في فكر هاراروي، حيث تستمر احالات المعنى بالارجاء والاختلاف المستمر Différance، عندما ينزاح مركز الوعي نفسه خارج الشروط المتعارفة، أي بتعبير آخر مناهضة “مركزية اللوغوس” Logocentrism التي طالما كان دريدا داعيا قوياً لها. ولهذا لا غرابة ان يتعرض فكر هاراوي للكثير من الرفض والاتهامات التي طالت دريدا وفكر ما بعد البنيوية عموما، من جانب مفكرين آخرين بارزين أيضاً، يرون هذا الانزياح صوب التعددية ازاحة الى خارج المنطق نفسه والمحددات التي غنى عنها للفكر البشري، رغم ما يتضمنه الأخير من مثالب ومؤاخذات.