بين التكديس والبناء!

الصفحة الاخيرة 2018/11/17
...

جواد علي كسار
 
كانت الحداثة المدنية أو التحديث كما يحلو للبعض أن يقول، فتنة كبيرة لمجتمعات المسلمين أوائل القرن الماضي، كما هي ما تزال مع صنوها الحداثة الفكرية. فما أكثر التجارب التي دخلنا بها في محاولة لنبذ التخلف المدني وبلوغ ناصية التقدّم، لكن النتيجة في أغلب بلدان المسلمين هي الفشل، وفي بعضها إعادة إنتاج التخلف وتصفير المعادلة أكثر من مرّة على نحو مريع، كما حصل في بلدنا العراق.
لبث المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905ـ 1973م) عند هذه الظاهرة كثيراً، وتساءل بجدّ عن بواعث بقاء بلدان المسلمين في حالٍ يرثى لها من التخلف المدني والتكنولوجي، رغم الثراء الفاحش لبعض هذه البلدان، وتحوّلها إلى أسواق لاستهلاك منتجات الآخرين، رغم كثرة تجارب التصنيع الذاتي وتوالي الخطط الخمسية والعشرية وما شابه!
في تحليل هذه الظاهرة والجواب عليها، أفرزت منظومة مالك مصطلحي «التكديس» و«البناء»، ليذهب عبر هذا التمييز المبكر إلى أن ما كان يحصل في بلداننا، هو «تكديس» لأشياء الآخرين ومنتجاتهم، نعيد إنتاج بعضها عبر مشاريع التحديث على نحو رديء، لنكرّس التخلف، على حين أن المطلوب للتقدّم هو «البناء» الذي يستبطن الإنشاء والتأسيس والإبداع. 
فربّة المنزل مثلاً ـ واعذروني لهذا التبسيط ـ لو حشدت في قدر الطعام ألذّ اللحوم العربية، معها الزعفران والهيل الإيراني، والبهارات الهندية وأرقى أصناف الرز؛ فلن تزيد حصيلة هذا التكديس عن أكلة رديئة في أحسن الأحوال، أو كتلة عائمة من الطعام الذي قد لا يصلح للأكل أصلاً. كذلك الحال في بناء المنزل، فتكديس أحسن موادّ البناء لا ينتج لنا منزلاً جميلاً متّسقاً، من دون رؤية معمارية مناسبة، وتمكّن من نسب الموادّ الإنشائية، واستخدام منظّم لها. على ان التكديس يكون في عالم الأفكار، كما يكون أيضاً في عوالم المادة 
والأشياء.
ما نحتاج إليه في هذه الرؤية لمالك هو نبذ التكديس إلى البناء، كي نكون في مسار التقدّم المدني.