محمد غازي الاخرس
هو ذاك، إنه منظور لا يمكن تخيله للكراهية يعرضه الشاعر صلاح نيازي في مذكراته “غصن مطعم في شجرة غريبة” حيث يسرد قصة اغترابه في لندن بطريقة لا عهد للقارئ بها. تراه ينطلق من فهمه لأنساق الإنكليز مقارنة بأنساق العرب التي شكلت قيمه وقيمنا، ومن هذه الأنساق ما يسميه “كراهيَّة الإنسان”. هو يرى وهذا سيتبدى لاحقاً ان الإنكليز “يكرهون الإنسان” ولكن ليس بالطريقة التي تتبادر لأذهاننا. كيف يكرهونه إذن؟ إنهم يكرهونه بمعنى أنهم لا يثقون به ولا يطمئنون لنوازعه. لأنَّ المشروع الانكليزي مرتعب على الدوام “من عدوانيته ووحشيته” أي الإنسان ولهذا راح النظام الإنكليزي يقيده بقوانين ظاهرها عادل وباطنها صارم، عادل لأنها مطبقة على الجميع، وصارم لأنه لا يجوز فيه التسامح، ومثال نيازي في هذا مستقى من الرواية الانكليزية التي توحي أنَّ الإنسان شرير بطبعه. هو يرى أنَّ أغلب الروايات الإنكليزية مبنية وفق فكرة غلبة الشرور على الإنسان، وهذا النسق انسحب على السينما التي هي ابنة السينما، سواء الأوروبية أو الأميركيَّة. على النقيض من ذلك، فإنَّ الوقوف عند العقليَّة العربيَّة ترينا العكس، فنحن نؤمن إيماناً لا يتزحزح “أن الإنسان خيّر بطبعه، قد يرى العراقي مثلاً شخصاً يعتدي على شخص آخر بالضرب والسباب وإذ تسأل شخصاً عن تبريره لذلك فيقول إنه كان عصبياً، “آه لو تعرف قلبه؟ أن قلبه قلب طفل ممتلئ بالطيبة”.
الأمر شهير ولطالما رأيناه وثمة أمثلة كثيرة عليه، ضمن ذلك أننا قد نبرر حتى للمجرمين فنقول إنهم طيبون في جوهرهم وبذلك نبرر للخطيئة ونبحث لها عن مخرج. ثمة من سيفكر ربما أن هذا التبرير ذو دافع سيكولوجي تعويضي ومعناه أنك حين تبرر خطيئة ما يرتكبها آخر إنما تبحث عن تبرير لنفسك لأنك تتخيل نفسك، وهذا بالضبط يفسر ما يبدو وكأنه تناقض في ما نراه عن أنفسنا. بالأحرى، نحن نعتقد، من جهة، أنَّ جوهر الإنسان طيب وخير رغم شروره الظاهرة. ثم، أننا، من جهة أخرى، نظن العكس تماماً، فنردد بيت المتنبي بإعجاب حين يقول: والظلم من شيم النفوس فإن تجد.. ذا عفة فلعلة لا يظلم.
بالعودة للانكليزي الذي عاشره صلاح نيازي ورأى أنه غير مؤمن بفرضية الجبلة الطيبة للإنسان. فإنَّ هذا عائد لنزعة عقلانية وعملية بعيدة عن المثالية. هو بالأحرى لا يضع وانفعالاته محل عقله، والمعنى أنَّ العقلانية الأوروبيَّة عموماً أثبتت أو حاولت إثبات غلبة نزعة الشر في الإنسان، وميله لأخذ حقوقه من هذه الحياة غلاباً كما يقول أحمد شوقي. أي بالمغالبة وتجاوز القوانين واستخدام القوة والخداع. لعلهم تأثروا بهذه النظرة الواقعيَّة فعالجوها بقسر الناس على إطاعة القانون والنظام وهو ما نفتقر له نحن بقرينة الصعوبة التي تواجهها الدول في فرض إرادتها على مواطنيها وقسرهم على الالتزام بالقانون الذي ما وضع إلا لدحر الشرور الكامنة فيهم. الأحرى اننا نفترض حسن النية في الناس بينما هم يفعلون العكس، أي يفترضون أسوأ النيات وهو ما يجعلهم “كارهين” في العمق للإنسان. السؤال هنا: ما معنى الكراهية بالضبط بهذا المعنى؟ أليست هي محبة في الجوهر؟ الجواب: نعم، هي محبة في الجوهر لأنك حين تشكك بنوايا الآخرين إنما تحميه مسبقاً وتردعه، وهذا المعنى قريب الى حد كبير من قولهم: امشي ورا المبجيك ولا تمشي وره اليضحكك ويضحك الناس عليك، وَيَا عجبي!