هذا الكلام في قصيدة النثر

ثقافة 2019/11/03
...

ترجمة: عادل العامل  جَيسون غوريَيل
 

الشعر، وفقاً للشاعر الانكليزي الشهير و. هـ. أودن، “كلامٌ لا يُنسى”. وإنه لتعريفٌ معقول: واسع بما فيه الكفاية ليتضمن قدراً كبيراً من الحياة النباتية والحياة الحيوانية ، لكنه دقيق بما يكفي لإقامة سياج من حوله. فعليك أن تكون قادراً على قول قصيدة، وعلى رأسك أن يحتفظ بها. ويمكن للقافية والوزن أن يساعدا على هذا. وكذلك الصورة الحية: 
 
[“النجومُ غيرُ مرغوبٍ بها الآن؛ فاطفئ كلَّ واحدةٍ منها. 
  واحزمِ القمرَ وفكِّك الشمس.”]
“ The stars are not wanted now; put out every one. 
 Pack up the moon and dismantle the sun.” 
إنه أودن، وليحاول القارئ فقط أن ينسى قوله هذا!
هناك على الدوام، بالطبع، استثناءات ــ “قصائد متينة  concrete”، حيث تُحوَّل مجموعات من الكلمات إلى أشكال وصور، أو “قصائد صوتية”، حيث يستخدم الشاعر صوتها ليزعق بنماذج من الضجيج. لكن معظم المدنيين يعرفون القصيدة حين يرون واحدةً. فالقصيدة تهزّنا كما هو محتَّم: ليس هناك من طريقة أخرى، ولا استخدام كلماتٍ أخرى. ذلك وهم، بالطبع، غير أن القصيدة تنتزعه لأنها فرضت نفسها للتو على ذاكراتنا.  والعالمون ببواطن الأمور ــ الشعراء، الدائمون ــ بالذات هم الذين يحبّون أن “يمشكلوا problematize” الشعر ويتدبروا ما لديهم من أمور. و”قصيدة النثر” إحدى أكثر تلك الأمور ثباتاً. وهي تبقى استثناءً، مشكلةً. “إن قصيدة النثر قصيدة من دون فواصل في سطورها، كما يكتب نويل ــ تود Noel-Tod في مقدمة مختاراته الأخيرة، (كتاب بينجوين عن قصيدة النثر). وهو يلوم الفرنسيين، الذين يصخبون بمقولات غير واضحة. وكان ألوسيوس بيرتراند، في القرن التاسع عشر، أول مَن ألّف قطعة نص ودعاها شعراً. وتبنّى الفكرة لاحقاً بودلير ورامبو وأمثالهما. ولم ينتشر شعر النثر في أميركا الشمالية لمدة قرنٍ آخر أو ما بقرب من ذلك. وحتى آنذاك، بقي مثيراً للخلاف والجدل. وحين رُفع كتاب مارك ستراند ( الصرح  The Monument)، وهو مجموعة قصائد نثر، لنيل جائزة بوليتزر في عام 1979، أبدى أحد المحكّمين، لويس سمبسون، معارضته. فقد رأى سمبسون أن ذلك ليس شعراً. (وقد جاء في تقريره، “لو أن جائزةً مخصصة للعزف على الكمان قد مُنحت لعازف على البوق، فإن كل شخص سيرى على الفور كم هو سخيف وغير مقبولٍ ذلك.”)
ويبيّن نويل ــ تود، وهو محاضر في جامعة أيست أنجليا، أن الشعر النثري “هو الاختراع الشعري المعرّف للحداثة” ويدهشه أن يكون هذا الشكل من الشعر “فجأةً في كل مكان” وربما هو على صواب في ما يتعلق بشعبيته. فقد حصد كتابٌ من الكلام الفارغ، لأيف جوزيف، جائزة شعرية في كندا قدرها 65,000 دولار. وهناك االعديد من الحالات المماثلة لذلك. ويغطي كتاب نويل ــ تود الآنف الذكر، (كتاب بينجوين عن قصيدة النثر)، تشكيلةً من تلك الحالات بضمنها ترجمات. ويعود الكتاب، المليء في مقدمته بأمثلة معاصرة، القهقرى، معرّجاً على أواسط القرن التاسع عشر. غير أن هذا التاريخ والنشاط لم يجعلا الشكل النثري مقنعاً ، بالنسبة للمتشككين، أكثر من كونه شيئاً مفتعلاً. وإليكم أدناه ما يقوله ستراند في إحدى قصائده النثرية ، “الوصول الغامض لرسالة غير عادية”:
[كان يوماً طويلاً في المكتب وعودةً طويلة بالسيارة إلى الشقة الصغيرة حيث كنت أعيش. وحين وصلتُ إلى هناك، أشعلت الضوء فرأيت على المنضدة ظَرفاً عليه اسمي. أين كانت الساعة؟ أين كانت الروزنامة؟ كان الخط خط أبي، لكن أبي كان قد مات قبل أربعين عاماً. وكما يمكن للواحد أن يفعل، بدأتُ أفكّر بأنه ربما، ربما، لا يزال حيّاً، يعيش حياةً سرية في مكان ما في الجوار. وإلّا كيف يمكن تفسير الظرف؟ وكي أتماسك، جلستُ وفتحته وسحبتُ الرسالة. وكانت تبدأ هكذا: “إبني العزيز”. “إبني العزيز” ثمّ لا شيء.] 
أليس هذا قصة بطاقة بريدية؟ صورة نثرية؟ قصة قصيرة قديمة بسيطة؟ إن بإمكانك أن تضع هذه الجمل العشر في بداية إحدى روايات بول أوستر الما بعد حداثوية والمتّسمة بالإثارة ولن يكون هناك اختلاف بينها. فقصيدة النثر، يمكننا أن نستنتج، هي تمدّد نثري أُريد به أن يكون شيئاً ما آخر بقوة التسمية. إنها فعل خيميائي.
ويبيّن أحد شواهد نويل ــ تود أن قصيدة النثر “ هي الدائرة التي نرسمها حول تفاعلاتنا مع العالم.” ويقول آخر إنها “تردد صدى الغيابات التي تكيّفها.” وينبغي لهذه التعريفات الغائمة أن تمنحنا وقفةً. فالسونيتات والقصص الشعرية والثنائيات الملحمية ــ يستطيع الناقد أن يكون جازماً بشأن مثل هذه الأشياء لأنها تمتلك معالم يمكن فهمها. أما أنصار قصيدة النثر، فيميلون إلى الوقوع في إبهام قاتل يفضح خواء الشكل الذي يرتمون فيه. 
أو لنقل: إذا قبلتَ أن قصة ستراند المذكورة أعلاه قصيدة، فإن كل شيء إذاً قصيدة ــ ولا شيء قصيدة، أيضاً. 
والمركزي في مقدمة نويل ــ تود هو الافتراض القائل بأن افتقار قصيدة النثر إلى حدود أمر جيد.
فمن دون فواصل في السطور، تكون قصيدة النثر حرةً لتمتد عبر الصفحة وإلى أسفلها بقدر ما تسمح به حواشي الطابعة. وبهذه الحرية بالذات يمكننا أن نحدد موضعاً للشعور المميز الذي تعطيه قصيدة النثر شكلاً: وهو التمدّد. 
ومما لايثير الدهشة لدينا، أننا ما أن نتجاوز المقدمة ــ وحديثها اليوتوبي عن “إيحاءات التمدد العقلي” ــ حتى نجد اتّساقاً لافتاً للنظر في الصوت والاسلوب. وأدناه عمل لأحد الشعراء في كتاب بنجوين هذا:
[ نصٌّ، مستقر على طاولة، قد حوِّل إلى عصافير مرسومة قبل سنين. (وقد اقتُلعت الصفحة لسنواتٍ مضت.) وإلى جانبه، قدح الماء. وإلى جانب ذلك، العصافير. وحيث مُزّقت الصفحة، حافّة. غياب. غناءٌ صامت. ] 
وإليكم عملاً آخر:[ إن إشعال مصباح إخفاءٌ للظلمة في مقصورةٍ كما هي حال النوم، إلى جنب الصمت، والرغبة، وهواجس البارحة. وقراءة كتابٍ اقترانٌ بعزلتين، بالطريقة التي يمّحي بها الحديث وينشأ، وتتهيَّأ الكلمات للصمت، والسحابة لغيابها الخاص بها، وبالطريقة التي يعرّي بها الثلجُ الربيع. ]
إن الحاجز أمام كتابة الشعر، دعك من النوع النثري، منخفضٌ هنا على نحوٍ مُغرٍ. ذلك أن كل محاولةٍ تقريباً لمدّ تعريف الشعر أدّت عموماً إلى تمييع ما كان يتطلبه الالتزام به ذات يوم من ممارسيه. وقد ترك الشعر الحر صيغة ABAB . شعر اللغة، النحو. وكما يوضح نويل ــ تود بدقة، “فإن النثر نمط من الكتابة يسمح بوفرة أسلوبية من الارتخاء.” هنا يفضح محرر الكتاب الاعتقاد الخاطئ بأن مزيداً من مدّ الحبل ــ مزيداً من الحرية ــ يعني فناً أفضل. وفي الحقيقة، فإنك إن أردتَ تدمير فنّان، أعطه شيكاً ببياض، وكثيراً جداً من الوقت، وبلا حدود.
عن/  Walru