أشياء أسعد الأسدي وأمكنته

ثقافة 2018/11/17
...

البصرة /صفاء ذياب
 
 
"يحدث أن تجد نفسك ملزماً بساعات طويلة من الصمت، وسط حضور الآخرين، ليس عليك سوى أن تصمت. الكلّ مشغولٌ في ما يمنعهم من الكلام، وأنت مشغولٌ في كيف تمضي تلك الساعات تتأمّل ما حولك، تتقرّب من الأشياء وتقرّبها منك"..
هكذا يعيدُ الدكتور أسعد الأسدي بناء رؤاه في قراءته للأشياء والأمكنة التي تحتويها، ليست قراءة من يريد أن يشرح أو يفسّر أو يصف، بل طرح رؤى بالإحساس بالأمكنة وأشيائها.
في ورقته التي قرأها الأسدي في الجلسة الاحتفائيّة التي أقامها التجمّع الثقافي العراقي الحديث على قاعة قصر الثقافة والفنون في مدينة البصرة، وقدّمها الشاعر هيثم عيسى، تنقّل بين أكثر من رؤية من أجل طرح فهم ما يريده في كتابه المحتفى به (أشياء وأمكنة)، وهو يقدّم ما يشعر به تجاه كل صغيرة وكبيرة في حياته الخاصة، وفي الحياة المحيطة به، قائلاً: حين تصغي إلى ما حولك، تصبح كائن إصغاء، لا تكون مصغياً لما يشغل الصمت، من دون أن يجعلك الإصغاء منصتاً لما تصغي إليه، وتجعله أنت مادة إصغاء، تبني عالمك، وليس العالم سوى عالم أحدنا وصنيعته، في صورة له، وحين ترقب الأشياء تكون كائناً متلصّصاً بعيون متسعة يقظة، يعوزها ما ترقبه، يعينك في كشفه وتجليته أن تكون كائناً متلصّصاً.
وينهي الأسدي حديثه: لم تكون الأمكنة شاسعة ممتلئة، ولم تكن أشياؤها فائقة، غير أن الصمت كان مديداً، تأمّل مثابر تمكّن من الفوز بوجوده أشياء مطلية بالألفة، لا أمل كبيراً في اكتشاف جديد فيها، من دون رغبة في وهم، يصنع أرضاً صلبة يسند إليها أقدامه.
 
ما بين الشعريَّة والمعرفة
ومن خلال الكتاب ورؤى الأسدي، حاول الدكتور لؤي حمزة عباس إعادة قراءة منجز أسعد الأسدي، قائلاً: مع كتاب (أشياء وأمكنة) يكون من الموضوعي الحديث عن مشروع الدكتور أسعد الأسدي في قراءة المكان وإنتاج معرفة خاصة به، وهو مشروع تواصل العمل فيه لأكثر من عقد ونصف لينجز حتى الآن أربعة كتب.
ويشير عباس إلى أنّه بين (الشعرية) و(المعرفة) مسافتان في مشغل الأسدي، مسافة زمنية وأخرى معرفية: الشعرية من جانب هي (دراسة قوانين الإبداع)، هذا الإبداع الذي انشغل الأسدي بمراجعته ودراسة مظاهر تحقّقه في منجز العمارة العراقية. أما المعرفة فتحقّق حضورها لديه عبر إنجاز وعي أعلى بالظاهرة المكانيّة والارتقاء بشعور الإنسان فيها. مبيّناً أنّه إذا كانت المعرفة هي الإدراك وفهم الحقائق عن طريق التفكير المجرّد أو من خلال اكتساب المعلومة عبر التجارب والخبرات، فإنّ المعرفة في مشروع الأسدي تتحقّق بقدر تحقّق وعينا بالمكان والارتقاء بشعورنا به... إنّ المسافة الزمنيّة التي قطعها مشروع الأسدي تسمح لنا أن نسأل عن طبيعة التحقّق النوعي لكتابته ضمن حقل نسميه على سبيل المقاربة والتفكير بـ (حقل الكتابة المكانيّة في العراق)، وهي الكتابة التي أسّسها وثبّت ركائزها الناقد الأستاذ ياسين النصيّر.
ومن خلال هذا الرأي يوضّح عبّاس أنّه طوال رحلة الأسدي ظلّ باحثاً مكانياً أميناً، لم يغادر مصطلحه الأساسي، ولم يعنَ بغير أسئلته المركزيّة، فلم تشغله مقولة على قدر من الإغراء النقدي مثل (الفضاء) ولم تسحره مقولة على قدر من الحضور الفكري مثل (الخيّر)، وظل منقباً في حقله المكاني، الحقل الذي تكشَّف ثراؤه على امتداد أربعة كتب حافلة بالبحث في المعنى المكاني.
 
تأمّلات الأشياء
أما القاص محمد خضير فيرى أنّك حين تتحدّث عن كتاب الأسدي، فما تتحدّث عنه ليس بعيداً عن بنيوية نصّ يمرّ عبر اللغة إلى كينونته الأخيرة (المرئية والمتخيّلة)، فالعمارة حقلٌ نصّيٌّ تعمل اللغة الإنشائيّة فيه عمل اللغة في النصّ المكتوب. ربما هي صدفة جميلة أو لقية في طريقنا، أن يتحدّث كتاب يؤلفه معماري عن لغة الإنشاء، الذي نبحث عنه من وجهة نظر سردية بحتة. ويبدأ هذا البحث بين الكلمات والأشياء.
مضيفاً: يدخل الأسدي حقل التأليف بتأمّلات عن "الشيء"، حدوده وصفاته واستعمالاته اليوميّة، لكنّه يتخلّص من هذه التأمّلات إلى الإقرار باستحالة الدلالة الحرفيّة على هذا "الشيء" بالرغم من مظهريته الهندسية الثابتة، فاللغة المستعملة في وصفه هي لغة تكراريّة، اعتباطيّة، تُحاكي لغة "التسمية" الأولى لأشياء الخلق والإنشاء، وأسطوريتها المتكررة في نصوص لاحقة.
وبحسب خضير، فإنّ السرد يعتمد على الذاكرة المكتظّة بالأشياء، لكن السارد الذي يكرر استحضارها عبر نصوصه اللغوية سينتقص من قيمة تراكمها الزماني، والمكاني في ذاكرته. إنّها تتضاءل وتتلاشى بقدر ما تتراكم وتتواقع للظهور مرة بعد مرة، تفقد دهشة حضورها الأولى.
 وحين تبهت الأشياء، يستعمل السارد "عين الكاميرا" لاستعادتها. وقد يبحث عن فضاءات بينية متخيلة، كي تستمر في إعداده بلغات بالغة التعقيد والغموض. فنجد في عالمنا وتصوراتنا الأشياء على "صورة ما نفتقده". أي أنّنا نخلق وهماً نعيش فيهن ونتذكّر من خلاله فردوسنا المفقود. العمارة كذب، كما النصّ المسرود، مصنوعان بلغة الحلم أو اليوتوبيا، على مسافة تصوّرنا عن
الأشياء.