للرواية أذرع طويلة

ثقافة 2018/11/18
...

عفاف مطر 
 
   
لا يخفى على أحدٍ، أنّ أهمّ عرّابي الثورة الفرنسيّة كان الأديب والروائي فيكتور هيجو، الذي تربّع على قائمة أدباء فرنسا في الحقبة الرومانسيّة، وقد قدمت روايته البؤساء رؤية حقيقية وواقعية لما كان يشهده عصره من احداث واضطرابات سياسية واجتماعية، واسهمت بشكل فعّال وواضح في تهيئة الشعب الفرنسي للثورة عام 1789، وأمسى أبطال الرواية الخياليون، قادة للثورة التي اطاحت بنظام الملكية والاقطاعية واعلان الجمهوية الفرنسية بعد سنين من الظلم والجوع  والفساد. 
واذكر هنا على الاخصّ شخصيتين رئيستين أسهمتا في تشكيل الوعي الجماهيري في ضرورة إحداث التغيير؛ وهما: كوزيت وجان فالجان. كوزيت، هي فتاة صغيرة تعمل خادمة عند عائلة ميسورة ولكنّها ظالمة، وتلتقي صدفة في إحدى الليالي وهي تورد الحصان، بجان فالجان الذي كان يعرف والدتها، فيدفع مبلغاً طائلاً ليتنازلوا عنها ويأخذها لتعيش معه تنفيذاً لوعده لأمّها فانتين قبل وفاتها. أمّا جان فالجان فهو شخص عادي اضطره الفقر الى سرقة الخبز والطعام مراراً حتى تمّ القبض عليه، وبعد خروجه من السجن عامله الناس بطريقة سيئة، الى أن ساعده في أحد الأيام قاضٍ صالح، فعمل خادماً عند هذا القاضي في منزله، لكنّه يرى طبقاً من الفضة فيطمع به ويسرقه ويهرب، فتلقي الشرطة القبض عليه، وحين يتمّ استدعاء القاضي يخبرهم أنّه هو من أعطى لجان هذا الطبق طواعية، فيُطلق سراحه ويعطيه القاضي باقي طقم الفضة ليبدأ حياة شريفة من جديد. 
رواية كوخ العم توم للكاتبة الاميركية هيريت ستو، ظلت متربّعة على قائمة الكتب الاكثر مبيعاً في القرن التاسع عشر، والكتاب الثاني بعد الكتاب المقدّس في القرن العشرين، ذلك أنّها السبب الرئيس في إلغاء حكم الاعدام في أميركا عام 1850، ليس ذلك فحسب؛ بل أسهمت بشكل مؤثر وكبير في وضع أساس الحرب الاهلية الأميركية لتحرير العبيد وإلغاء تجارة الرقيق، وحين التقى الرئيس الاميركي ابراهام لنكولن مع الكاتبة ستو في بداية الحرب الاهلية قال لها جملته الشهيرة: "إنّ تلك السيدة ضيئلة الحجم هي التي بدأت هذه الحرب العظيمة". 
إذ ألهمت هذه الرواية أصحاب النفوس السليمة الذين يؤمنون بأنّ الناس سواسية، لا فضل للون أو لعرق بعضهم على بعض، وأنارت الرأي العام كلّه حول المظالم الواقعة على الزنوج. 
والى جانب هاتين الروايتين اللتين اسهمتا بشكل مباشر في تغيير مجرى تاريخ الأمة الأميركية والفرنسية العديد من الروايات التي لا تقلّ أهمية، فضلا عن هذا النوع من الروايات، هناك أخرى كان عملها إكمال ما وقع فعلاً، توثيقه، سرده، أو حتى فضحه، وقد أثر هذا النوع في المجتمعات بشكل غير مباشر ولكنّه فعّال في تخطي أزمات انسانيّة ووضع قوانين وتشريعات جديدة وحذف أخرى قديمة، كما أسهمت في تشكيل الوعي الانساني لقضايا مهمّة جداً استطاعت أن تلفت نظر الجمهور والمشرِّع في ضرورة وضع حلول تناسبها.
 في رواية جين اير لشارلوت برونتي استطاعت الكاتبة أن تلفت نظر المهتمّين والعامة كذلك إلى الدور السلبي الذي تلعبه المدارس الخيرية في ذلك الوقت في هدم شخصية التلاميذ عبر سنّ القواعد والتعليمات الصارمة والتي لا يتحمّلها الطفل في الخامسة من عمره، وذلك بدلاً من أن تكون الجهة المسؤولة عن بناء شخصياتهم وتطويرها؛ هذه القضية جاءت في المرتبة الثانية بعد قضية المرأة وما كانت تعانيه في العصر الفيكتوري من احتقار وتهميش في ظل القوانين البطريركية والكنسيّة التي كانت تحكم اوروبا كلّها حينذاك، والتي تعدّ المرأة ليست سوى متاعاً للرجل، فخاطبت المرأة بضرورة الاستقلالية في حياتها وأن تكون صاحبة المبادرة الأولى والقرار في ما يخصّ شؤونها، وأن لا تستسلم الى القوانين ورغبات المجتمع، فأحدثت الرواية ضجّة لم يسبق لها مثيل في المملكة المتحدة بين مؤيد ومعارض، فكانت الشعلة الأولى في طريق الكثير من الحركات النسوية فيما بعد. 
وفي موضوع يتعلق أيضاً بالمرأة جاءت الرواية السيريّة امرأة في برلين وهي مذكرات الكاتبة والصحفية الالمانية مارتا هيلرس؛ فاض هذا النصّ بسيل من الاعترافات الممنوعة والمحرّمة؛ لم يفضح فقط ما تعرّضت اليه نساء برلين من اغتصاب جماعي ومتكرّر على ايدي الجنود السوفييت بعد هزيمة الجيش الالماني في أواخر الحرب العالمية الثانية، بل فضحت ما هو أهم وأعظم والذي لو استمرّ السكوت عنه كان يعني ازدياد فرص حدوثه في المستقبل، وهو موقف المجتمعات من المرأة الضحية، إذ فضّلت مارتا هيلرس كشف الجريمة بكلّ تفاصيلها عبر يومياتها والتي استمرت لثمانية أسابيع وهي مدّة مكوث الجنود السوفييت في برلين وهي خالية من الرجال، والاعتراف بما حدث، وهو ما سميَّ فيما بعد بالعلاج الذاتي، إذ قالت في بداية المذكرات: "بعض التجارب يمكن طردها من الأفكار بتحويلها الى كلمات" والكاتبة هنا لم تتجاهل غضب المجتمع من اعترافاتها كمُغتَصَبة فقط، بل أن كِتابة هذه المذكرات في السياق الزمني لها، بين الجنود السوفييت تعدُّ مخاطرة كانت من الممكن أن تودي بحياتها. هذه المقالة ردّي على الكثير من الاكادميين الذين يقلّلون من أهمية وشأن الرواية.