عن ذكرى المعطف

ثقافة 2018/11/18
...

ياسين طه حافظ
 
ليس جديداً إدراك الإنسان لاختلاف معنى فنٍّ عن معنى مهارة، ثمّة العديديون يرسمون وجوهاً ومناظر طبيعيّة ومن يجيدون البناء، النسيج، أو يشمّون زخارف وتعابير على زنود أو أذرع راغبين. ونساء القرى في بلادنا، وفي بقاع من العالم أخرى، يرتضين وشماً مكان الحاجبين وعلى الحنك نزولاً أكثر، وتجد سطوراً منه أو أشكالاً معروفة على الفخذين وقد تحظى القدمان ببعض منه.
لكن مزيّني الجمال، أو العابثين به، مهَرة يقلدون أشكالاً توارثوها .. وهؤلاء نساء في الأكثر ورجال، قليل منهم يمتلكون حسّاً فنياً وثقافة فنية تميزانهم عن سواهم، وتجعلان من عملهم
 فناً.
مثل هذا يُقال عن ممارسي الكتابة، ثمّة من يكتب كشفاً معلوماتياً أو وصفاً ماديّاً لا روح وراءه أو يصوغ خبراً أو تقريراً عن حدث في مكان، لكن هذا كما نعلم جميعاً غير مبدع الأدب ومبدع فن الشّعر.
نعم لصاحب المهارة عمر الاحتراف وخبرة الممارسة وهو جدير بالاحترام، فقد اكتسب خبرة وتفوقاً، لكنّه يُحاكي ويأتي بما يماثل ما يراه فلا جديد في ما يفعل ولا اضافة شيء لما نعلم ولما كنا نرى. وراء الفنان المبدع ثقافة فنيّة ووعي فكري وفهم إنساني وحساسية الشعر التي تجعل المنجز حياً، ويرينا به عالماً جديداً طلع توّاً! ليس غريباً بعد هذا ان نسمع كلاماً أو نقرأ سطوراً بلا نسغ حي مما يوصف بالشعر، وهو كثير. لا لوم، هو كلام ناس تلك حالهم. يفتقدون فن الكتابة، يفتقدون الأنا الكامن والروح التي تلامسنا وقدات محبتها. لا تنتظر عملاً فنياً لا ثقافة وراءه. ولا وعي بجذور الظواهر وحال البشرية والحس الإنساني بما وقع ويقع. التخصّص لا يبعد العلم عن حسّنا الفني، هو يكتسب به حضوراً جديداً ومكيناً. القشور تبقى قشوراً بلا محتوى وراءها. بعمل مثل هذا ننأى عن الركون ونبدأ التقدم والتطوير ونفرح بالجديد
 الآتي.
كان الرسام الاثيني "اوفرانور – القرن 4 ق.م" يقول بأنّه يمتلك معرفة عصره الشاملة!، قد يكون فعلاً مثقفاً واسع الثقافة بعصره وبفنه. وكونه رساماً ونحاتاً متميزاً وعظيماً، يجعل من الكلام 
حقيقة!
لكن إلى جانب هذا، ثمّة من يدعون، في ذلك الزمن وفي زماننا، الثقافة ويتظاهرون بمحاورة فلان ومراسلة فلان واعجاب الاسماء بهم. ولا بأس في هذا فهو تعبير عن أمانٍ يتمنونها وعن طموح. لكن السكينة مطلوبة، وكلامهم يمكن أن يمرّ مثل باقي الكلام إذا قرأنا لهم ما يسوّغ تلك الأقوال أو رأينا لهم أعمالاً تفرحنا وتجعلهم جديرين بما يدّعون. وإلّا، فالعديد من المزخرفين والمتلمعين وكثيري الكلام قد اختفوا ولا نذكر لهم كتاباً جديراً بالذكر ولا عملاً يمكن أن يستوحي منه أحدٌ أو يفيد أحداً من مجايلين أو ورثة.
الامفيكيتون، وهو المجلس الأعلى لليونان، اصدر يوماً مرسوماً بمنح "بوليغنوت" حق الضيافة العامة في أي مكان وعلى تكفّل المدينة التي يطلب الضيافة فيها بكافة نفقاته، شرط أن يترك للمدينة أثراً ولمن يأتون سلمة يرتقون خطوة عليها ولا يكون مثل "برازيوس" الذي أشاعه بين ناس زمانه مظهره المخادع بذلك المعطف الشهير الذي كان يتجوّل فيه ... بعد موته لم يذكر له غير معطفه الارجواني المطرز، وهو الوحيد الذي ظل في التاريخ.. هل حقاً كان كذلك أم نظلّ غير مصدقين عسى أن يكشف لنا علم الآثار شيئاً مهماً عنه؟، هنا نحن أمام مسألة تستوجب في الكلام عنها أخلاقيات كريمة. فذلك وأمثاله ارادوا أو يريدون أن يكونوا كما يتمنّون. لكن لم تكن المقدرة كافية ولا الظرف ربما كان مناسباً. أو إن كان الظرف طيباً فثمّة ما يربك المسعى ويحط من القدر، ثمّ أن القاصر غير محرّم عليه الطموح. فكيف نخلص أنفسنا من شرك مثل هذا؟، أظن ما يوجبه احترام النفس واحترام الناس وحماية الاسم من الهزء والتقوّل، هو أن يعرف الإنسان قدره ويهيئ نفسه جيداً لعمل يريد إنجازه، أي عمل، وذلك خيرٌ له وأبقى ولكي لا يبقى المعطف الارجواني وحده في
 التاريخ.