حروبنا الجديدة.. مدنيَّة وبلا نهاية

--- 2019/11/11
...

ساسكيا ساسن*
ترجمة: انيس الصفار                                             
في قرننا الحادي والعشرين تحول السعي لتحقيق الأمن القومي الى سبب لفقدان الأمن المدني. الأنموذج التقليدي الشائع لمعنى الأمن، وفق انظمتنا الديمقراطية الغربية، ليس فيه استيعاب لأحد أهم المعالم الاساسية المميزة لحروب هذا الزمن، فحين تخرج القوى العظمى الى الحرب في زمننا تجد أن أعدائها الذين يواجهونها ليسوا قوات نظاميّة. هؤلاء ليسوا جنوداً منتظمين في جيوش، بل هم تشكيلات من مجاميع تتبنى قضية معينة، أو تنتهج نمط حرب العصابات، أو جماعات ارهابية.
بعضها يتشكّل جمعها بسهولة لبلوغ هدف مشترك، وبالسهولة نفسها يتشتّتون، ولكن بعضهم الاخر ينخرط في حروب لا تلوح لها في مرمى البصر نهاية.
الشيء المشترك بين هؤلاء المقاتلين اللانظاميين هو انهم يخوضون حروبهم داخل المدن. فالمدن هي الفضاء الذي يوفر لهم فرصة القتال وفيها يمكنهم ترك بصمة تلتقطها وسائل الاعلام لتهز بها العالم. هذا كله بالطبع يأتي على حساب المدن، وهو أيضاً على حساب الآلة العسكرية التي تمتلكها القوى العظمى.
الاختلاف الاساسي بين صراعات اليوم وصراعات الحربين العالميتين الأولى والثانية هو ذلك التفاوت الحاد بين المسرحين، مسرح عمل الجيوش التقليدية مقارنة بمسرح نشاط المقاتلين اللانظاميين. حين يتعرض أثر فني كبير للدمار تحدث حالة هلع وشعور بالخسارة .. ولكن عندما يقتل ستة ملايين انسان في ارياف الكونغو لا يحدث شيء. لهذا السبب يكون المقاتلون اللانظاميون في ذروة قوتهم وهم داخل المدن، لأنهم في الميدان المفتوح لن يستطيعوا اسقاط طائرة بسهولة أو يقاتلوا كتائب الدبابات. بدلاً من ذلك يستدرجون العدو الى المدن فيسقطون الميزة الجوهريّة التي تتمتع بها الجيوش الكبيرة، إذ لا تعود الآلات الحربية المتقدمة مجدية في المساحات الضيقة المكتظة داخل المدن.
رأينا ذلك في العراق بعد 2003 حين خاضت الولايات المتحدة وحلفاؤها حربها الثانية هناك. حرب العراق، مثل حرب فييتنام من قبلها، كانت مثالاً حياً على حروب هذا الزمن اللامتناظرة وفيها البرهان الواضح على مقدرة المقاتلين اللانظاميين على احراج الجيوش التقليدية الضخمة. لقد كانت الهجمات على قطعات الجيش العراقي النظامي سهلة وسريعة، حرب نفذتها القوات المهاجمة من الجو وحسمتها في ستة اسابيع بفضل التفوق المطلق الذي دمر الجيش العراقي، أما الحرب على الأرض فلم تهدأ تماماً رغم مرور سنوات على ذلك. كذلك فإنّ حرب المدن الحديثة لا تضع المواجهة المباشرة ضمن اولوياتها. بدلاً من ذلك تنحو القوى الى اتخام المدن بالمدنيين، أو العكس بإفراغها منهم. في كثير من الاحوال، كما حدث في كوسوفو، دفع النازحون صوب المدن ليتضخم تعداد سكانها، وفي احوال أخرى، كما في بغداد، أجبرت عمليات التطهير العرقي الناس على هجر مناطقهم، وهذا هو ما حدث عندما خرج السنة والمسيحيون والجماعات الدينية الاخرى "طوعاً" بعد أن كانوا لزمن طويل متعايشين معاً في مدن العراق الكبرى.
هذه القوى صارت تتجنّب المواجهة في اغلب الاحيان، واصبحت ستراتيجيتها تحقيق السيطرة على الأرض من خلال ازاحة "الآخر"، وهذا "الآخر" يكون معرفاً في معظم الاحيان بدلالة عرقه أو دينه او انتمائه العشائري او ارتباطه السياسي. التكتيك الرئيسي المتبع لذلك هو اشاعة الرعب بارتكاب فظائع صارخة، كما حدث في جنوب السودان أو الكونغو إذ قتلت الجيوش اللانظامية المتحاربة الملايين للاستيلاء على مناطق المناجم والثروات.
بيد أن الجيوش الغربية آخذة بالتعلّم، فالجيش الأميركي لديه الان معسكرات تدريب هي صور مقلّدة لأحياء مدنية "عربية"، وقد اختاروا اتباع الأسلوب الاسرائيلي المتمثل بعدم دخول الاحياء المكتظة عبر شوارعها بل الانتقال عبر البيوت مخترقين الغرف الداخلية واحدة تلو اخرى راسمين مسارات موازية للشوارع ولكن عبر الجدران المتتابعة متعاملين مع السكان آنياً عند مصادفتهم.
ما أدركته هذه القوات قبل كل شيء هو أن المدن نفسها قد تحولت الى معرقلات. لا شك أن باستطاعتهم قصفها ببساطة وتحويلها الى حطام، مثلما رأينا من قصف حلب ومدن سورية أخرى على يد القوات الحكومية وحلفائها، ولكننا لم نشهد الى اليوم دماراً كاملاً كذلك الذي اصاب هيروشيما جراء الهجوم النووي أو القصف الناري الذي انصب على مدينة درسدن.
ترى ما السبب؟ ما الذي يجعل المدينة مشكلة وهدفاً صعباً بالنسبة لجيوش القوى الكبرى؟
لنتأمّل الموقف ثانية .. يقتل ستة ملايين انسان في ارياف الكونغو، بينهم عاملون في الأمم المتحدة من "ذوي الخوذ الزرق"، على يد جيوش لا نظاميّة فلا تكاد الصحافة العالمية تكترث، ثم يقتل 13 شخصاً في لندن فيصبحون خبراً يتصدر الصفحات.
من السهل على وسائل الاعلام بلا شك اعداد التقارير عن المدن الكبيرة مقارنة بالقرى والحقول، ولكن حتى عندما تستذكر أحداث القتل في المناطق البعيدة فإنّ الصدمة والتفاعل اللذين تحدثهما لا يكونان بالقوة ذاتها حين تصيب الهجمات الارهابية المدن. السبب هو ان التعرض للمدن يتخطى مهاجمة الناس: فحين يصاب مبنى تاريخي عريق أو يدمّر عمل فني شهير يكون هنالك هلع عظيم وألم وحزن وشعور بالخسارة الى أبعد الحدود، أما مقتل ستة ملايين انسان في الكونغو فإنّه لا يحدث شيئاً.
هذه المقارنة صادمة ولكنها تكشف واقعاً. هل لأنّ المدن شيء بنيناه بأيدينا؟ هل لأنه جمع من الأبنية التي تكاملت عبر الزمن والمكان؟ هل لأنّ في قلب كل مدينة مستقر التجارة والنشاط المدني، حتى المدن التي بدأت تاريخياً كقلاع؟ 
هذا مؤكد، فأصداء أي حدث جلل يصيب المدن يليها خروج جماعات من الشبان المكلومين الغاضبين الذين يعتقدون أن اصغر هجمة ارهابية على مدنهم يجب أن تشغل الاعلام في العالم كله، خصوصاً اذا وقعت على مدن ليست من ضمن "منطقة حرب".
خارطة حروب المدن الجديدة واسعة الابعاد، وهي تتخطى بكثير ميادين الحرب المباشرة. الهجمات على مدريد ولندن والدار البيضاء ونيويورك وبالي ومومباي ولاهور وجاكارتا ونيس وميونخ وباريس وبرشلونة ومانشستر وبروكسل ومدن كثيرة غيرها كلها اجزاء من هذه الخارطة، سواء كان للبلد نفسه حضور على مسرح الحرب أم لم يكن.
لقد انتقلنا من حروب كانت تشنها قوى مهيمنة تبغي السيطرة على البحر والسماء والأرض الى حروب تخاض في المدن، سواء وقعت ضمن منطقة الحرب أم كانت بعيدة كل البعد عنها. فضاء الفعل الحربي يمكن أن يقع ضمن اطار الحرب الأشمل، أو قد يكون مرتبطاً بشؤون محليّة بحتة, إذ يكون لكل هجوم اسبابه واهدافه الخاصة به، وبصرف النظر عما اذا كان محاولة لإبراز قضية ما امام انظار العالم ام لم يكن. هذه الافعال الموضعية التي تنفذها جماعات مسلحة محلية تتصرّف في معظم الاحيان باستقلال عن غيرها، وكذلك عن اللاعبين الكبار ضمن رقعة الحرب الأوسع. لقد اصبحت هذه الاجزاء المعزولة عن بعضها اليوم شكلاً جديداً من اشكال الحرب متعددة المواقع.
قديماً كان في الحروب دائماً خيار الهدنة، ولكن حروب يومنا لا تخوضها قوى مهيمنة واضحة كي تتخذ قرار انهاء حالة الحرب. الأهم من هذا كله أن حروب المدن في يومنا هي حروب لا تلوح لها على مد البصر نهاية.  
* عن صحيفة الغارديان