حين بدأت التظاهرات في الأول من تشرين الأول الماضي، كانت كلّ الآراء والتصورات وحجم التوقعات لاتتعدى -إلّا في حدود ضيقة- ماكان عليه الأمر سابقا. تظاهرات تدعو الى الإصلاح. هذا هو العنوان العام الذي درجت عليه كلّ تظاهراتنا منذ شباط 2011 الى آخر تظاهرة في صيف وخريف عام
2018.
واستنادا لطبيعة التظاهرات السابقة والسقوف التي ارتفعت اليها بما في ذلك اقتحام المنطقة الخضراء مرتين، فإنّها لم تكن تمثل تهديدا للنظام السياسي، فضلا عن أن مانجم عنها من حزم إصلاح لم يكن بالجديّة التي كان ينبغي أن تكون عليها.
لاننسى أنّ جبهة برلمانيّة كانت انطلقت آنذاك أطلقت على نفسها "جبهة الإصلاح" لكنّها سرعان ما انتهت وسط حزم من التبريرات عمّن خانَ من ومن ركبَ الموجة ضد من، وكيف اتفق فلانٌ مع علان ولم تنتج عنها حزمة إصلاحيّة واحدة. مع ذلك لم يعلن أحد حتى الآن موتها إن كان سريريا أو نهائيا.
تظاهرات تشرين مختلفة لجهة الشعارات التي ترفعها أو الأهداف التي تنوي تحقيقها بعيداً عن من ركب أو لايزال يحاول ركوب موجتها، وبعيداً كذلك عن الإجندات الإقليمية والدولية التي حذرت منها حتى المرجعية الدينية لأنّها مثلما هو معروف الأكثر وضوحا في إطار عملية تداخل الخنادق
والجبهات.
لنأخذ مقطعا واحدا في سياق هذه التظاهرات وهي ساحة التحرير بعيداً عن جسر الجمهورية القريب أو جسور السنك والأحرار والشهداء حيث امتدت التظاهرات اليها في أوقات مختلفة قبل أن تبدأ معارك الكر والفر مع القوات
الأمنية.
لساحة التحرير رمزيّة خاصة على صعيد التظاهرات وما يمكن أن يرفع من شعارات أو أهداف أو حتى سقوف تبدو في مثل هذه الاحتجاجات غير قابلة للتفاوض.
مع ذلك فإنّ نظرة فاحصة الى الساحة وماباتت تنطوي عليه من فعاليات مختلفة، بما فيها فعاليات اجتماعية وثقافية وفنية وصولاً الى تزيين نفق التحرير بأنامل الفنانين الشباب ذكورا وإناثا أو إصدار جريدة ورقيّة "التكتك"، وانتهاءً بإطلاق تسمية "جبل أحد" على المطعم التركي، أقول إنّ نظرة فاحصة لكل ذلك تبيّن أنّ الهدف الحقيقي لهذه التظاهرات هو بناء وطن واحد وإن كان بعناوين
مختلفة.
لاينبغي لأحد لا في الحكومة أو البرلمان أو الأحزاب أوالقوى النافذة في المجتمع أن تخشى فورة الشباب حتى لو بلغت مرحلة الثورة طالما الهدف هو الوطن الواحد المعافى. والدليل على ذلك أنّ الطبقة السياسية تصرّ في كلّ بياناتها وحزم إصلاحها أنّ الحركة الاحتجاجية الحالية فرصة ثمينة للإصلاح والتنبيه على الأخطاء وبدء مرحلة جديدة فاعلة على كلّ الأصعدة.
هذا يعني وبعيداً عن المتصيّدين بالماء العكر وراكبي الموجات وأصحاب الأجندات أنَّ التظاهرات فكّكت المنظومة الخاطئة التي كانت عليها القوى السياسية منذ 16 عاما والى اليوم.
فهذه المنظومة التي فتت فكرة الوطن الواحد باسم التعدديّة لم تنجح في ضمان حقوق المكوّنات لأنّها اعتمدت المحاصصة الطائفية والعرقية بدلاً من الهوية الوطنية.