أيقونة التكتك

آراء 2019/11/13
...

د. عبد الواحد مشعل
 
كباحث انثروبولوجي يدفعه فضوله العلمي دفعا الى وصف ظاهرة تفاعلية، فكان تفاعلنا مع كثير من المعاني والرموز التعبيرية تنتجها فعليات متنوّعة تجسّدت بإبداعات ثقافية وفنية بجهود فردية وجماعية متفاعلة ومتحركة صوب هدف مشترك هو الحصول على حقوقها المشروعة، بات الحراك مؤمنا بها، كما يؤمن أصحاب الأيديولوجية بأيديولوجيتهم وهم يصنعون فعلا ثوريا يريد تحقيق أهداف باتت واضحة أمام الجميع، وإلّا كيف تفسّر تأييد الجموع على مختلف مواقعهم الوظيفية ومشاربهم الفكرية وانتماءاتهم الفرعية بهذه الأهداف.
وعدوها قضية رأي عام، تطالب الفاسدين بمظاهرات سلميّة حضارية، استرجاع أموال الشعب، وعدالة اجتماعية طالما غابت طويلا، انتظرها الشعب خلال الفترة الماضية بصبر وحكمة، إلا أن  القائمين على الأمر لم يقرؤوا المشهد جيدا، وفاتهم أن الآمال التي كان يراهن عليها الشعب قد تبددت مع تقادم السنين، حتى تولد حراكا شعبيا واسع النطاق مستفيدا مما منحه الدستور من حق التظاهر السلمي، وفي وسط هذا التجمع الجماهيري، يحاول الباحث وصف وتحليل الرمزية الأكثر ظهورا من بين الرمزيات الحاضرة في هذه التظاهرات الشعبية، فلم يستطع تجاوز أيقونة (التكتك) وهي تجوب ساحة التحرير ذهابا وإيابا يعلوها علم العراق مرفرفاً بكبرياء، فأصحاب التكتك من الناس المعدمين الذي وجدوا في اقتناء التكتك سببا لمعيشتهم اليومية حتى أصبحوا منافسين لأصحاب التاكسي الذين لا يفترون عن مضايقتهم، وهم يجبون شوارع المناطق الشعبية في مدينة بغداد ناقلين زبائن اغلبهم من النسوة بسعر رمزي، كما أن كثيرا من أصحاب المركبات والمارة كانوا يضيقون بهم ذرعا نتيجة سرعة التكتك ومروره سريعا في مواقف مختلفة اعتبروها تعديا عليهم أو خارج مألوف سير المركبات الأخرى، وفي ليلة وضحاها أصبح أصحاب التكتك يحضون باحترام الناس وتقديرهم وهم يقومون بأدوارهم الشجاعة في نقل المصابين بسرعة فائقة الى سيارات الإسعاف أو الى المستشفيات تحركهم غيرتهم الوطنية، كما يشدك المنظر إعجابا، ويجذبك إليه جذبا وأنت تمر في ساحة التحرير إذ ترى أن أحد أفراد القوات الأمنية يستقل التكتك في تنقلاته، ما يعكس عراقية ووطنية الاثنين معا.
 
أيقونة تتكلّم
لا يحتاج الأمر الى وقفة طويلة في التحليل لأيقونة التكتك فقد فرضت نفسها بعجلاتها الثلاث على المشهد وبسرعتها وتفاني أصحابها في تقديم ما يقدرون عليه، فهي علامة جميلة بلونها الأحمر والأصفر والأسود وغيرها يعلوها علم العراق وهي تشق طريقها بين صفوف المتظاهرين حتى أصبح المشهد الجماهيري ناقصا من دونها، انه علامة نضالية متميزة بهيئتها الجميلة وأصحابها الإبطال الذين لا يكلّون ولا يملّون وهم يقدمون خدماتهم المجانية لمن
يحتاجها. 
وهم ينشدون بلغة فصيحة مطالبين بدولة مدنيّة عادلة تحارب الفساد، وتبني صرح دولة العراق القوية التي يحترم فيها الجميع، فالحكومات السابقة انصرفت الى مشاغلها دون أن تلتفت الى هموم المواطن الذي خرج في أحلك الظروف لانتخابها دون أن يحصل على بصيص أمل ينقله الى واقع أفضل في بلد يعوم على بحيرة من البترول، بينما نشأت إقطاعيات عائلية استفادت من ثروات العراق الضخمة، وبالمقابل عاش المواطن ضنك العيش حتى كان احد أهم الأسباب التي جعلت الشباب الصغار   يتجهون الى شراء (التكتك) لسد حاجات أسرهم، وهم لا يعلمون أن هذا التكتك سيصبح أيقونة تتذكّرها الأجيال جيلاً بعد آخر.  
 
التكتك يدخل التاريخ
سيسطر التاريخ جولات التكتك وبطولات أصحابها في خدمة المتظاهرين في النشاطات المختلفة، وسيذكر التاريخ أنّ هذه الأيقونة فرضت نفسها رمزا جماهيريا دخل الى خط التظاهر فجأة حتى أصبح ظاهرة واضحة متكررة في المشهد اليومي، حتى أطلقت الجماهير على صحيفة التظاهرات في ساحة التحرير اسم "التكتك" تقديرا وتخليدا لدوره في العمل اللوجستي والمعنوي لنشاط المتظاهرين، وقد تحول التكتك بامتياز الى أيقونة الحرية وذكرها يعانق رمزية أيقونة الحرية لجواد 
سليم.
 
الجماهير والحلول
ينبغي على الطبقة السياسية الحاكمة أن ترتقي الى مستوى الحدث، وتجري تغييرات جوهرية قبل أن يتحول الموقف -لا سمح الله- الى فوضى عارمة، وعندئذ لا ينفع الندم، وسيكون الجميع خاسرا، والحل يحتاج الى شجاعة وهي اتخاذ قرار شجاع باسترجاع كل أمول العراق فورا وبإجراءات قانونية عادلة، والابتعاد عن الوعود والتسويف التي لم تعد تنطلي على احد، والموقف بسيط هو اتخاذ موقف تاريخي من قبل كل العراقيين بالاعتراف بالواقع، وتغييره وبناء الدولة المدنية التي يحكمها القانون، ويكون سلطان الدولة هو الفاعل الوحيد على الساحة، ليعيش الجميع باطمئنان وحرية تمهيدا للشروع بتنمية شاملة فعّالة تنقل الواقع الى حالة أفضل يرضى عنه الجميع، وبإشباع الحاجات الأساسية للمواطن تتحقق الهوية الوطنية، ويكون القانون ثم القانون ثم القانون هو الفيصل، فمطالب المتظاهرين تجاوزت حاجاتهم الشخصية الى البحث عن هوية وطنية، والهوية الوطنية لا يمكن تحقيقيها إلّا بإشباع تلك الحاجات، واحترام إرادة الإنسان وحفظ كرامته، فالجيل الجديد يختلف عن الأجيال السابقة، فهو يعي مباشرة معنى الحرية والكرامة والانتماء، ولا يعبأ بالمخاطر. ويكفي هنا استعارة مقطع من قصيدة لشاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري مستشرفا سمات هذا الجيل الجديد، كمعنى تتوقف عنده جميع المعاني، إذ أنشد قائلا، (سينهض من صميم اليأس جيلٌ عنيدُ البأس جبّارٌ عنيدُ... يقايض ما يكون بما يُرجّى  ويعطفُ ما يُرادُ لما يريدُ).