تصحيح المسارات

آراء 2019/11/15
...

د. كريم شغيدل
 
بصرف النظر عمَّا أشيع بشأن التظاهرات التي انطلقت مطلع تشرين الاول الماضي، إذ فعّل البعض نظرية المؤامرة، وشكّك المتشكّكون، وألمح البعض لجهات خارجية داعمة، حتى وصل الأمر ببعض الساسة والمراقبين إلى وصفها بتمهيد لانقلاب عسكري، لا ننفي وجود مندسين ومخرّبين، أو عملاء لجهات خارجية تعمل ضد العراق وتسعى لزعزعة أمنه واستقراره، بعد الانتصار على عصابات داعش، ولا ننفي وجود سعي حثيث لإشعال الفتن، فبعد فشل مخططات الاقتتال الطائفي، تمَّ الانتقال لخيار آخر
هو الاقتتال بين أبناء الطائفة الواحدة، لكن نقولها للأمانة التاريخية: إنّ الواقع دحض كلّ نظريات التآمر، ومن يتعايش مع المتظاهرين فسيجد ما يبدد الشكوك والتخرّصات، إذ ليس في ذهن المتظاهرين أيّة فكرة عن انقلاب عسكري مزعوم، وليس بينهم من يعمل لصالح جهة أجنبيّة، وإذا كان هناك نفر مغرر به فهو غير ظاهر للسطح وليس فاعلاً في الساحة، وأن المتظاهرين منعوا رفع أي شعار طائفي أو عدواني أو سياسي لصالح جهة على حساب جهة ثانية، وكانوا أذكى من أن يفسحوا المجال لمن يريد ركوب الموجة، وإذا كان بينهم بعض الشباب المندفعين أو لنقل المتهورين، ممن يصرّون على عبور الجسور أو استفزاز القوات الأمنية ببعض أعمال العنف الطفيفة، فينبغي ألّا تؤخذ الأغلبية بجريرة قلة قليلة، وكان على الجهات المسؤولة، لا سيما القوات الأمنية أن تتعامل ميدانيّاً بمهنية، لا أن تحمّل الجموع وزر وازرة أخرى، نقول هذا لننقل صورة مشرقة وحقيقية عن مستوى الوعي النوعي لغالبية المتظاهرين وهم أبناء بررة ومخلصون في ولائهم لوطنهم، والأحرى بنا أن نكرّمهم ونستثمر طاقاتهم ووعيهم لخدمة البلد لا أن نفقدهم الثقة بقواتهم الأمنية التي وقفوا وقاتلوا إلى جانبها في الحرب على داعش، وهزجوا لانتصاراتها، واستعادوا الثقة بها بعد أن تزعزعت باحتلال عصابات داعش لثلث أراضي البلاد. ليس بالضرورة تفريق تظاهرة سلميّة بقنابل مسيلة للدموع، الأولى أن نستوعب المتظاهرين، وغالبيتهم من الشباب المتحمّسين، ويمكن لأيّ عمل عنيف أن يستفزّهم، كان ينبغي الاستماع لمطالبهم بروية، وإقناعهم بحكمة، فالقمع يزيدهم إصراراً وشعوراً بالمظلومية، لا سيما أنَّ غالبية القادة السياسيين والأحزاب والكتل قد أقروا بشرعية المطالب، وأرى أن هذا النوع من الحراك الشعبي غير المسيّس هو من نتاج الديمقراطية، بل هو وعي بمبادئ الديمقراطية الحقة التي فشلت الطبقة السياسية بترسيخها، وهذه التظاهرات بتلقائيتها واستقلاليتها تعد مصدر قوة للبلد.
قنابل الدخان أو القنابل الصوتية أو حتى العتاد المطاطي لم يعد مجدياً، إذ أسقط صمود المتظاهرين منطق القوة، وهنا ينبغي الوقوف بجديّة لإعمال منطق العقل والحكمة، وعلى القوات الأمنية أن تراعي آليّة استعمال القنابل بما لا يُلحق الضرر بأحد، فلكل قنبلة مدى معين، والدخانيّة أو الصوتيّة، التي يجب إلقاؤها أمام الحشود، إذا ما استخدمت بمدى أقل ستصبح سلاحاً قاتلاً، والحل بيد القوات الأمنية التي يتوجّب عليها إيجاد حلول ميدانية لمنع الخروقات من دون إلحاق الضرر بالمتظاهرين السلميين، فعلى الرغم من عدد الشهداء والجرحى، وتحمّل الغازات الخانقة وإرهاب الشائعات التي نشطت في الآونة الأخيرة، إلّا أنّهم ما زالوا مصرّين على سلميّة تظاهراتهم.
الرئاسات الثلاث حاولت أن تجتهد بحزم من الإصلاحات، وهذا أمر حسن، لكنّها جزئية، وقابلة للالتفاف عليها بعد هدوء عاصفة التظاهرات، فالحكومات السابقة صراحة أفقدت المواطن الثقة بالوعود، وإذا كانت التظاهرات السابقة غلب عليها الطابع السياسي، وكان فضها مرهوناً بتحقق مصالح هذا الطرف أو ذاك، فإنّ التظاهرات الحالية لا ترمي لتحقق مصالح جهات معينة، وإن سعى البعض لذلك، فالمتظاهرون غير مسؤولين عما يحدث في أروقة السياسة من صراعات، وأن مطالبهم هذه المرة ذات طابع بنيوي يخص الأسس التي قامت عليها الدولة بعد حقبة البعث السوداء، وهي مرحلة كانت وما تزال قلقة وواجهت تحديات جساماً، ولم يكن المشروع الديمقراطي ناضجاً، وما هذه التظاهرات إلّا فرصة للتصحيح، وعلى سياسيينا بمختلف المواقع استثمارها لتصحيح المسار، لا سيما أنّ أغلبهم غير راضين عن مستوى الأداء العام لمؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية
والقضائية.
 التعديلات الدستورية أصبحت أمراً واقعاً، فبعض الفقرات التي تثير اللبس وعرضة للتأويل والاجتهاد، ربما تحتاج إلى إعادة صياغة لغوية لتصبح واضحة ولا مجال للجدال فيها، مثل مفهوم الأغلبية الانتخابية أو البرلمانية، أو مفهوم ثلثي المجلس في ما يخص إلغاء مجالس المحافظات، أو التوقيتات الزمنية للاستفتاء في كركوك، أو حق التصرّف بالحقول النفطية المكتشفة بعد 2003 وغيرها. وقضية استحداث قانون جديد للانتخابات يُرافقه تشكيل مفوضية مستقلة فعليّاً وخارج نطاق المحاصصة أصبحت غير قابلة للنقاش. وهناك طبعاً قوانين مرتبطة ببنية الدولة كقانون تشكيل الأحزاب الذي ينهي الكثير من الأزمات، لأنّه يرتكز على ثلاثة أسس هي: هوية الحزب، وتمويله، وجناحه العسكري، إلى جانب قانون حق الحصول على المعلومة الذي يتيح لمنظمات المجتمع المدني والإعلام والمواطنين حق الرقابة فضلاً عن قانون النفط والغاز وغيرها من القوانين التي تلزم مؤسسات الدولة بتطوير أدائها بما يضمن للمواطن حقّه في التعليم والصحة والعيش الكريم، ويغلق أبواب الفساد.
      ما تزال المرجعيّة العليا ممثلة بالسيد علي السيستاني (دام ظله) تمثل صمام أمان للبلد، وكان موقفها الأخير مشرفاً، وقد لعبت بعثة الأمم المتحدة دوراً مهماً، ويلوح في الأفق مشروع حوار وطني، وأرى أنه آن الأوان لتغليب مصلحة المواطن والوطن على المصالح الضيقة، فقد لا ترضي بعض التعديلات الدستورية بعض المستفيدين، كما لا يرضي قانون الانتخابات المزمع سنّهُ بعض الذين سيفقدون مواقعهم، وقد تتضرّر أحزاب كبيرة بقانون تشكيل الأحزاب، كما أنّ المكافحة الفعلية للفساد وكشف حقيقة بعض حيتانه ستجعل البعض يتساقطون مثل قطع الدومينو بتفعيل قانون (من أين لك هذا) المقر في ثلاثينيات القرن
 المنصرم.
لا بدَّ من توفير بيئة آمنة للاستثمار، وإيقاف عمليات الابتزاز للشركات الأجنبية، ومعالجة المشاكل العالقة بين المركز وإقليم كردستان وفق الدستور، والنظر بإعادة تأهيل ما يقرب من أربعة آلاف مصنع عراقي وطرح الحكومي منها للاستثمار، مع دعم حقيقي للقطاع الخاص، وتفعيل شرط تشغيل نسبة 50 بالمئة من العراقيين في الشركات النفطية، وإبقاء هذه النسبة كحد أدنى في أية استثمارات مقبلة، والتوجه نحو اقتصاد السوق الذي يناسب النظم الديمقراطية، إلى جانب تحسين الخدمات المتعثرة بسبب هيمنة المفسدين على ملفاتها. ولتكن هذه التظاهرات فرصة سانحة لتصحيح مسارات العملية السياسية التي يشتكي السياسيون أنفسهم من أخطائها وأعبائها وتداعياتها على
مستقبل البلاد.