استحقاقات النماء السياسي في الدولة العراقيَّة

آراء 2019/11/18
...

علي حسن الفوّاز
 
قد تبدو السياسة وكأنها الفن الأصعب، ولكنّ قدرة السياسيين هي الأكثر صعوبة في مواجهة تحدياتها، إذ تفترض هذه الصعوبة ضرورة أن يتعلموا، وأن يُجيدوا ادارة هذا الفن، في أسئلته، وفي مقارباته، وفي اجراءته، إذ لا مناص من التعلّم والحرفنة، وبعكسه فإنّ السياسي "غير المتعلّم" سيكون سببا في إحداث الكثير من الاضرار والمكاره.هذا المدخل التوصيفي يرتبط بالحديث عن واقعنا السياسي، وعن علاقة مايجري بالعقل السياسي، وفن ادارة الازمات، وفي التعاطي مع الحاجات والوقائع، وحتى في مواجهة الاحتجاجات والتظاهرات الشعبيّة، والتي يتبدى في صورتها الرفض الحقيقي للضعف السياسي، ولسوء ادارة الملفات الوطنية، وحتى في احترام العراق السيادي، والوطني، ورثاثة البنية السياسية التي عجزت وطوال ستة عشر عاما عن انجاز ملامح واضحة لهذا العراق.
مشكلة صناعة الدولة ترتبط بوعي السياسيين لهذه المشكلة، وبالكيفية التي يمكن بها تجاوز عقدة الدولة القديمة/ الدولة الانقلابية/ الدولة الديكتاتورية، والشروع ببناء الدولة الديمقراطية، والتي تتطلب مهارات وخبرات مهنيّة وفنيّة، مثلما تتطلب وعيا سياسيا يملك اسباب وحيثيات فكرة البناء، وشروط ادامتها، لكن ما جرى، وعبر جملة من الظروف المعقدة، والتحديات الداخلية والخارجية، تسبب عن فقدان "مشروع الدولة" طاقته وهويته، وتحول الى مشروع يحمي مصالح السياسيين، ويكرّس أزمة نشوء الدولة ومؤسساتها، حتى وجدنا أنفسنا وبعد زمن سياسي ونفسي أنّنا أمام ما يشبه "اللا دولة" على مستوى ضعف امكانات ادارة الثروة، والبناء المؤسسي، والتوصيف القانوني، والحماية الشعبيّة، وبالشكل الذي تسبب في ترهّل المؤسسات وزيادة نسب الفقر والبطالة، والعجز، وهي مظاهر يجعلها القانون الدولي قرينة بصورة الدولة الفاشلة.
 
الدولة القوية ولعبة المحاور
من أخطر مايُهدد العراق السيادي هو الضعف السياسي، وسوء ادارة الملفات الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية، والتي تعني البقاء في اطار (الدولة الفاشلة) والتي لاتملك القدرة في الدفاع عن نفسها، ولا عن ثرواتها ووحداتها الوطنية، ومن هنا نجد اهمية ترابط التوصيف السيادي بمفهوم الدولة القوية، بالمعنى السياسي الوطني والاقتصادي، وليس بالمعنى العسكري كما كان يحدث سابقا.
الدولة القوية والناجحة هي الضد من تلك الدولة الفاشلة، والتي ستحظى باحترام الآخرين، فهذه الدولة هي العاجزة عن حماية مواطنيها، والتي ستجد فيها الدول الاخرى مجالا مفتوحا وسهلا للتدخل في شؤونها، وفي استغلال ثرواتها، أو حتى توريطها في الصراعات والمحاور، والتي ستنعكس سلبا على مصالح شعبها..  هذه الدولة لاتملك ارادتها، وليس لديها امكانية التعبير عن حقها، ولا عن سيادتها ازاء التهديدات التي تتعرض لها، وهو مايحدث اليوم، حيث التهديدات الامنية والجيوبوليتكية في المنطقة، والتي تتطلب حضورا سياديا يُعبِّر عن نفسه من خلال فاعلية القرار السياسي العراقي الوطني، وفي ادراك الجميع خطورة التشظي السياسي، والخضوع الى ارادات ومشاريع واجندات خارجية..
إنّ النجاح السياسي الداخلي وترصين الوحدة الوطنية يعني تمهيدا لتأسيس مشروعية النجاح الخارجي، وهو سياق توصيفي يؤكد اهمية التلازم مابين النجاحين، واهميتهما في تأصيل مشروعية الهوية الوطنية، وفي نجاح تيسير فاعليات التنمية والتقدّم، وفي دعم برامج البناء السياسي والاجتماعي والعلاقات الدولية، بما فيها برامج التعليم والصحة والخدمات والعمل، والتي تحتاج الى التخطيط مثل حاجتها للثروة، لاسيما أنّ النظام الريعي الاقتصادي للعراق يشكّل واحدا من أكثر العقبات تهديدا للمستقبل وللسيادة ذاتها، إذ يستدعي الأمر اجراءات واقعية وعملياتية لتنمية الاقتصاد الوطني، ولتوسيع أفق الثروة الوطنية، من خلال تنشيط وتحفيز سوق العمل والصناعات الوطنية وتعديل نُظم الاستيراد، وبما يكفل بتعزيز وتطوير الثروة العراقية من خارج الريع النفطي، فضلا عن السيطرة على تضخم البطالة بين العمالة العراقية الماهرة وغير الماهرة..
 
حديث الدولة والمسؤولية
إنّ ادراك مسؤولية الدولة يعني ادراك ماينبغي العمل به لتجاوز عقدة الفشل فيها، والعمل على معرفة كل الاسباب التي اسهمت في انتاج هذا الفشل، ومنها اسباب صياغة القوانين، وفي حماية الناس من الفقر والبطالة، وفي صياغة عقد اجتماعي يجعلهم اكثر احتراما للديمقراطية، وللانخراط في مؤسساتها، لكن تراكم مظاهر الفشل، وتدوير اللعبة السياسية أضعف الى حدٍ كبير هذه المسؤولية، واصاب شرائح كبيرة من المجتمع بالضرر، وباليأس والاحباط، ليس على مستوى معاناتهم فقط، بل على مستوى اصلاح العملية السياسية، وقطع طريق تراكم الفشل، ومعالجة المشكلات العميقة التي تسببت في تضخم ظاهرة الفساد، والهدر في الثروة الوطنية، وفي تعطيل كل برامج التنمية، بما فيها التنمية البشرية والصحية والتعليمية، وهي قضايا من الصعب الحديث عنها مع وجود "موازنة ضخمة" كالتي تُقرّ سنويا، والتي تتحول وبعد الأشهر الأولى من إقرارها الى ميزانية طوارئ، يذهب بعضها للفاسدين وللمشاريع الضعيفة، وللاستثمارات غير المجدية، رغم أنّ اكثرها يذهب للموازنة التشغيلية، والتي تعكس في جوهرها ترهّل مؤسسات الدولة، وضعف اداراتها، وسوء التعاطي مع حاجات نامية لاقتصادات الواقع، إذ يعني تضخم البنية المؤسسية الرسمية ضعفا كبيرا في بنيات القطاع الخاص، وحتى في القطاع الانتاجي، فالاقتصاد العراقي في هذا السياق تحوّل الى اقتصاد استيرادي، وبطرق عشوائية، أفقد معه القدرة على تشجيع قطاعات واسعة، كانت نامية وفاعلة مثل القطاع الزراعي والصناعي والتجاري والسياحي، ومن ثم وجدنا انفسنا امام عطالة شاملة، كثرت معها العطالات المجاورة لشرائح واسعة، ومنهم الشباب الذين لم يجدوا امامهم فرصا حقيقية وواقعية للعمل، واحسب أن العنوان العميق للتظاهرات هو البحث "عن عمل" أي البحث عن هوية وعن ذات، وعن أطر قادرة على التعاطي مع اسئلة المستقبل وحاجاته، لاسيما أنّ معدل النمو السكاني في العراق يتجاوز 3 % وهو رقم كبير وخطير...