عصامية فذّة

الصفحة الاخيرة 2018/11/22
...

جواد علي كسار

عاش بين سنتي 1904ـ 1979م، وعانى اليتم والفقر والتشريد في بلده لبنان، بيد أنه لم يُذعن ولم يستسلم، بل جاهد وسعى بعصامية فذّة، فتحوّل إلى قامة فكرية سامقة وواحد من أبرز العلماء، حيث ترك عند وفاته ما يزيد على الستين مؤلفاً بعضها بعدّة مجلدات، كما في تفسيره للقرآن الكريم (سبعة مجلدات) وشرحه لنهج البلاغة (أربعة مجلدات) ودورة فقهية استدلالية ميسّرة، هي فقه الإمام جعفر الصادق (ستة أجزاء) 
وهكذا.
عدتُ إلى حياته كثيراً، وقرأتُ تجربته أكثر من مرّة، وكتبتُ عنه مرّات، وكان يُدهشني في ذلك جميعاً، من بين كثيرٍ يُدهشني في حياته وتجربته، هو سيرته المعرفية، وعلاقته المتميّزة بالقراءة والكتابة والتأليف. فبعد رحلة علمية في حاضرة النجف الأشرف دامت عشر سنوات، قفل عائداً إلى بلده لبنان، فعانى وعائلته شضف العيش والضيق الشديد في توفير الخبز لنفسه وعائلته، لكن ذلك لم يصرفه عن المعرفة: «كنتُ أقرأ وأفكّر وأُحاكم منصرفاً عن كلّ شيء، إلا عن الكتاب». يضيف مفصلاً: «كنتُ أتابع قراءة رسالة الزيات، وثقافة أحمد أمين، ومجلة الهلال والاثنين، واشتريت كتباً لطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وهيكل وشكيب أرسلان وجبران، ولتولستوي ونيتشه وولز وشبنهور وشكسبير وبرناردشو وغيرهم. وأنفقتُ معظم أوقاتي مع رجال الفقه والفكر والعلم والأدب والفلسفة». وهذه كانت مصادر الثقافة العامة في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، حيث عاش 
صاحبنا.
في موضع آخر، يعطينا مؤشراً آخر على كثافة قراءته وانفتاحه، وهو العالم الديني المنبثق من حاضرة النجف الأشرف، حيث يقول: «قرأتُ المئات من الكتب الحديثة، وطالعتُ العديد من المجلات العلمية والأدبية والاجتماعية، وتابعتُ الكثير من أنباء ما يحدث في الشرق والغرب من ثورات وأحداث، ومؤامرات 
وأحلاف».
في الربع قرن الأخير من حياته تفرّغ تماماً للقراءة والبحث والتأليف، وراح يعمل يومياً بين 14ـ 18 ساعة، وقد يستغرق بالقراءة والتأليف مدة (36) ساعة متواصلة، فأصدر جلّ مؤلفاته في هذه المدّة. كان يقول: «ما من يوم يمرّ عليّ لا أقرأ فيه ولا أكتب، إلا أحسستُ بوخز الضمير وتأنيبه، أو كأن ينبوعاً كان في داخلي فجفّ ماءه ونضب».
من طريف ما يستشهد به تمثيل لشاعر صيني، يقول فيه: «يحسّ المفكر الذي تمضي عليه ثلاثة أيام دون أن يقرأ، أن حديثه قد فقد النكهة، كما يرى أن وجهه أصبح كريهاً إذا نظر إليه في المرآة»!
هكذا مضى الراحل الشيخ محمد جواد مغنية حتى اليوم الأخير من حياته، في مثل هذه الأيام قبل أربعة عقود!