محمد غازي الاخرس
..ومن حكايا العمى والبصيرة تلك التي يرويها الموصليون عن الملّا عثمان الموصلي، ولست أدري من أي بئر خرافي قديم انبعثت. يروون أنّ الملّا عمي في طفولته بسبب امرأة تكره أمه وتناصبها العداء. لقد أرادت تلك الكارهة إيذاء غريمتها فانتهزت يوما خلو الدار فدخلت واقتلعت عيني الرضيع بيديها، فما كان من الأم المسكينة سوى أن أخذت المقلتين المقتلعتين وخبأتهما، ولما كبر عثمان سلمتهما له على أمل أن يعثر على من يستطيع إعادتهما إلى مكانهما. هكذا يقولون رغم أن عثمان بن السقاء عبد الله بن الحاج فتحي بن عليوي المنسوب إلى بيت الطحان كان أصيب بالجدري وهو لم يتجاوز السادسة فأكل المرض عينيه ضمن ما
أكل. يقول أحد المسنين ممن أدركوه وهو طفل إنه رآه سليما معافى "حتى أنه لا يكاد يدخل بيتا من بيوت أقاربه أو جيرانه إلا ويبادر إلى القفز إلى الحائط على يديه بخفّة تدعو إلى الإعجاب". يتحدث المسن عن طفولة كفيف هو الأشهر في زمانه، لا في الموصل وبغداد حسب، بل في اسطنبول والقاهرة ودمشق. فالرجل ممن جمع بأطراف العلوم وبرز فيها، في اللغة والقراءات والشعر والموسيقى
، بل إنه أسس لمرحلة انتقالية كبرى شهدت ولادة أعاظم الموسيقيين اوهؤلاء طبعوا بصماتهم على عصر بأكمله. ثمة عبده الحمولي وسيد درويش مثلا، وهنا في بغداد تتلمذ على يديه أساطين القراءة والمقام والمناقب. يقول مؤرخو سيرة عبقرينا إنه تنقل بين بغداد واسطنبول ومصر وبلاد الشام وتتلمذ على أيدي كبار القرّاء والشيوخ المولوية من أمثال مصطفى مخفي أفندي في لواء أزميد، ولما أجازه ذهب إلى مصر ليأخذ علم القراءات العشر عن إمام قراء طنده الشيخ يوسف عجوز. على أن ما يهمنا من هذه الرحلة هو جمع ملانا بين المجالين، الغناء الديني والدنيوي، ومن ثم، إحداث تأثير مزلزل في الجانبين. كيف حدث
ذلك؟
حدث ذلك حين تتلمذ على يديه عبده الحمولي أولا، وحدث ذلك بين عام 1897 و1902، ثم ترسخ حين جاءه سيد درويش عام 1909 بعد وصوله إلى بلاد الشام لينهل منه. يقول المؤرخون إن سيد درويش درس الموشحات وفنون الموسيقى والمقامات على يدي الملّا، ثم عاد إلى القاهرة، ثم عاد مرة أخرى إلى الشام ليستزيد من علوم صاحبنا، ومن سمع لحن "زوروني في السنة مرة" بصوت الملا، وبكلمات فصيحة تختلف سيعجب ويقول: يا لله، كيف أضعنا رمزنا ونسيناه واحتفوا هم برمزهم وجعلوه نبراسا!
الآن، بالعودة إلى العمى والبصيرة، فإن حكاية تخبئة مقلتي الملا عثمان تبدو عظيمة في رمزيتها، فالمقلتان زرعتا رمزيا بالفعل، ولكنهما زرعتا في الحقلين اللذين أزهرا بعده، الغناء الديني والغناء الدنيوي، ويا عجبي!