هدية حسين
لنا عبد الرحمن، اسمٌ له تميّزه على خارطة الأدب اللبناني والعربي، لها أربع روايات هي: حدائق السراب، تلامس، أغنية لمارغريت، ثلج القاهرة.. وثلاث مجموعات قصصية، أوهام شرقية، الموتى لا يكذبون، والمجموعة التي نحن بصددها، صندوق كرتوني يشبه الحياة، وصدر لها في النقد كتابٌ بعنوان شاطئ آخر، والقارئ لقصص وروايات لنا عبد الرحمن سيدرك أنّه أزاء قصّ مختلف له نكهة خاصة ومتفرّدة، تغرف من الواقع وتزيّنه بالفانتازيا أحياناً، لكنّه في كل الأحوال يحمل رسالة إنسانيّة عميقة لا بدَّ من قراءتها والتوقف
عندها.
قصص المجموعة تشترك شخصياتها بالمعاناة الإنسانيّة وبالبحث عن مستقر في هذا العالم المضطرب والرغبة بتحقيق لحظة سعادة ورضا وأمان في مجتمع فرض قيوده فأصبحت ثوابت لا تتغيّر، تفتح الكاتبة مجهرها الإبداعي وتلتقط ما وراء الصورة، ما بداخل النفس وما يبدو متناهياً في الصغر لتسلّط الضوء عليه، بلغة غنيّة في مفرداتها وأفكار متجددة وأسئلة وجوديّة تفرضها حالة الاغتراب التي تعيشها الشخصيات، تلك الشخصيات التي تبدو وكأنّها تتحرّك الى جوارنا وتعيش معنا وربما كانت نحن، الذات التي تسكن أعماقنا والتي تشبه صندوقاً كرتونياً لا نعلم ما بداخله حتى ينكشف الغطاء بأصابع كاتبة متمرّسة.
في مقالتنا هذه سنركز على القصة الأبرز (صندوق كرتوني يشبه الحياة) التي أخذ منها عنوان المجموعة، والتي اختيرت كأفضل قصة ضمن قائمة أفضل قصص آسيا لعام 2019، ترجمتها الأميركية جريتشن ماكوله والشاعر المصري محمد متولي، تبدأ القصة بهذه الجملة (إسمع يا خليل، حكايتي مع سلمى بسيطة، في غاية البساطة لكنّني لم أنسها بسهولة) فكأنّ هناك كلاماً سابقاً جرى بين الصديقين، هنا ينشد القارئ لمعرفة الحكاية مثل الصديق خليل، وستكون عن امرأة شابة ظهرت فجأة في حياة بطل القصّة الخمسيني أثناء ما كان يمشي في الطريق (تخيل أنك تمشي في شارع، ثمّ فجأة يظهر أمامك صندوق كرتوني كبير، ويُفتح من تلقاء نفسه، وتنطلق منه أشياء سحريّة وحدك تراها، مظلة تعزف ألحاناً ثم تطير في السماء، قزم يرقص وهو يرتدي قبعة حمراء، تنين مجنح يطلق النيران من فمه، جنية لطيفة تحلّق على مستوى بصرك فتحول غبار المدينة الى ألوان قوس قزح، تحيل الشوارع المزدحمة والقذرة الى شوارع يتجمهر فيها الناس ببهجة كما لو أنّهم يستعدون لكرنفال.... كان عبور سلمى في حياتي يشبه هذه التفاصيل).
لكن حكاية سلمى في القصة تبدأ بعد أسطر من تلك البداية، من عبارة (في نهار مثل كل الأيام المملة الروتينية المتشابهة التي تبتلع عمري، استيقظت وفعلت ما أفعله كل يوم....) إلخ.. هكذا تنقل الكاتبة أجواء قصتها الى المتلقي، تشحنه أولاً بكرنفال أحاسيس البطل الذي لم تختر له اسماً على العكس من صديقه المعرّف باسم خليل والذي لا دور له في السرد سوى الإصغاء، ثم تعيده الى ما قبل رؤيته لسلمى، فتلقي الكاتبة ضوءاً كاشفاً على حياة هذا الرجل، الحياة التي تشبه بركة آسنة، متزوّج من ممثلة لم يحالفها الحظ في أول بطولة لها كتب هو سيناريو الفيلم فكانت تحيل فشلها إليه، ثمّ كيف رأى سلمى وتبعها الى بيتها ليرى "مسرور" سيّاف ألف ليلة وليلة، أي أنّ الكاتبة انتقلت من الواقع الى الفانتازيا، فمن جاء بمسرور من تلك الحكايات الغابرة ليتجسّد بشحمه ولحمه في هذه القصة الواقعية العصرية؟ ثمّ سنعرف بعد ذلك أن الرجل ليس سيّافاً ولم يأتِ من عصر ألف ليلة وليلة وإنّما شبيه به من ضخامة جسمه وسلوكه العام، هذا هو الفن، أن يجيد الكاتب مداخل قصصه والتلاعب بوقت حكايته وإيهام القارئ، ثم يدخله في صراعات شخصياته، ومزج الحكاية إن تطلب الأمر بشيء من
الفانتازيا.
الأحداث تبدو غامضة بعض الشيء أول الأمر عن هذه المرأة التي ظهرت فجأة في حياة رجل خمسيني أصاب الجفاف أيام عمره لتحيلها الى نسغ جديد وحياة متحركة قبل أن يفقدها بطريقة لا تخطر له على بال، وكان تعارفهما بعد أن أنقذها من معاكسة ثلاثة شبان، بعدها دعاها الى مقهى، طلب هو قهوة وطلبت هي طعاماً، انشغل هو بالنظر إليها أثناء ما كانت هي تأكل، شابة لها طلّة ملكيّة تسترعي الانتباه، لم تأكل الطعام كله فطلبت من الجارسون أن يلفَّ لها بقية الطعام في علبة بلاستيكيّة، خرجا من المقهى وتجولا في وسط البلد وتناولا الآيس كريم، ثم أصرَّ على توصيلها للبيت، فأخذته الى المترو، ومنه الى سيارة أجرة، ثم ركبا التوك توك، ومشيا مسافة في طريق ترابي متعرّج.
وفي البيت شاهد ذاك الرجل الذي يشبه مسرور السيّاف، فعاد بعد أن اتفق معها على أن تأتي الى بيته في يوم حدده لها تكون فيه زوجته عادةً عند بيت أهلها.. رجع سعيداً ومحلقاً في سماء لاحدود لها، كأنّه يمتلك العالم بين يديه.... وما نزال نصغي للحكاية مثل خليل ونصل الى نهايتها (لا لم ألتقِ سلمى مرة أخرى، أعطتني رقم هاتف لا يجيب، ومن المستحيل أن أعرف طريق بيتها من جديد، كما أنّه من المستحيل أن يتكرر اليوم الواحد مرتين) هكذا تنتهي القصة، مثل حلم جميل مرَّ سريعاً وخاطفاً، وهكذا هي قصصنا في الحياة، لا تكتمل ولا تنتهي كما نشاء، فتبدو حياتنا كما لو أنّها صندوق كرتوني ما إن تنكشف محتوياته حتى ندرك أننا نعيش وجوداً هامشياً لحياة لا تستمر.