الساحر والمعماري

ثقافة 2019/11/19
...

ياسين النصير

من الوجهة النظرية لا توجد علاقة بين الساحر والمعماري، ولكن الوجهة العملية تؤكد أنّهما معًا يعيدان إنتاج الواقع المتشظي ويصيرانه مفاهيم مشيّدة تقنع النفس المريضة، وتسكّن الأسرة العارية من الحماية. فاللغة المبهمة لدى الساحر، هي احجار لدى المعماري، يمكن أن تلمس هذه المعادلة في طرائق عمل الاثنين، ذلك الأنموذج المركّب للساحر بأن يكون معماريًا للنفوس، وبأن يكون معماري البناء ساحرًا بما يشيده لحماية الجسد. 

لكن هذه الوسطية الثنائية غير مبررة إذا ما تناولناها من داخل العقل التجريبي، سيكون المعماري أرسخ  تنظيمًا في تعليم طرائق عمله، في حين يكون الساحر متخفيًا وراء طرائق عمله بلغة لا يمكن فهمها بسهولة.
قد يقول البعض، ثمّة تقارب بين عمل الساحر وعمل المعماري من أنهما معًا فنانان، كلٌّ في ميدان اشتغاله مجال لعبقرية الذات، بالرغم من وجود خبرة معطاة من اشياء الحياة واشكالها للاثنين، فالساحر يعيد تركيب أجزاء النفس المتشظية والمبعثرة ليكوّن شيئًا حاضرًا في المخيلة عندما لايجد البعض حلولًا مقنعة لطرائق العيش، ويلجأ المعماري إلى إعادة بناء الأفكار المهملة والمتشظية والمتروكة التي أزاحتها السنين واهملها التطور، ليعيد منها شيئًا يشبه سكن القرى والمجمعات الانثروبولوجية القديمة مصحوبة بالحكايات الشعبية كما فعل المهندس غاودي في بناء مجمعات خيالية على غرار متاهة الف ليلة وليلة في مدينة اشبيلية الإسبانية. عندئذ يمكن أن يقترن عمل المهندس بالحيلة المعمارية الساحرة، عندئذ سيكون كل فرد ساحرًا، ينتقل بين الممارسات والآمال علّه يكتشف ان بمقدوره اقناع نفسه أن ما يعمله سيجد صدى عند الآخر، وبالفعل اعتمد رئيس القبيلة في عصور أولية من أن يكون رئيسًا وساحرًا، اي مهندسًا اجتماعيًا ونبؤئيا، مصحوبًا بأدوات اختبار، ومقنعًا بما يحيط به نفسه من قدرات تبدو أكبر من عقلية القطيع، وفي الوقت نفسه سيكون مهندسًا روحانياً، يستطيع تنظيم قبيلته لخلق أنموذج للعيش، هكذا تخبرنا الانثروبولوجيا بأنّها صنيعة أناس يفكرون عبر الممارسة، وفي الوقت نفسه ينشأ المعماري الحديث من داخل حقل التجريب المستمر، حينما بنى كوخه الأرضي أول الأمر متحديًا به أفعال الطبيعة، ثم خارجًا من رحمية الكهف والمغارة ليواجه به الرياح والعواصف والأمطار والحرارة والفيضانات والحيوانات، إنّ بناء البيت الجسد، باغطيته وستائره وجدرانه كان يحاكي الجسد الإنساني، كل شيء يبدأ من الجسد، شأنه شأن الساحر الذي يسلط رموزه على الجسد ليعيد إليه ما تشظى منه واضمحل، جسدًا/ بيتًا يقيه مغبة العدو الخارجي الذي يتربّص به، سواء كان العدو طبيعة أم أشياء غامضة تترأى في مرآة حياته. الجسد/البيت هو أول معمارية تجسيدية للفكر المعارض للرحمية الكهفية، كمكان، وللاقدار المبهمة لمصائر. كما لو الإنسان يريد بذلك ان يرى الله، بعدما كان محتجبًا عنه في الكهف.
المثيولوجيا هي الحكمة المزدوجة للساحر وللمعماري معًا، من خلال البيت: بيت السكن، وبيت العبادة، يكون الجسد هو العامل المشترك بين الفعلين، ليجد نفسه مسجونًا بالبيتين، وعليه أن يؤدي وظيفتين: رعاية الأسرة وتأدية طقوس العبادة، يمارس الساحر على الإنسان قوى غامضة كي يغيّبه عن إنسانيته ويجعله جزءًا من الطبيعة، أي العودة إلى رحم الكهفيّة المجهولة، بينما يسعى المعماري إلى انتشاله من تلك الظلمة الكهفية في بناء بيت له، فما يحدث في الطبيعة ينعكس عليه، لذلك كان السحر ثقافة طبيعية، يمارسها المعماري بطريقة تشييدية، بينما يمارسها الساحر لغة شعرية. هذه الطاقة التي تولدها حالات الشد والتمرّد، واحدة من الحالات التي تخلق أشكالًا للتفكير، لعل نوافذ وأبواب البيوت بنيت كقوى متنفسه لضغط  الطبيعة والجدران والسقوف على الجسد، فالعالم الخارجي لا بدّ من حضور له في أي مكان رحمي. هنا، يبدأ دور الساحر في أن ينظم جغرافية الأرواح، وينظم المهندس المعماري جغرافية الجسد، فالعيش يتأرجح بين الحرية والقيد، وبطريقة علمية فيها شيء من الانضباط المنظم، يبدو أن العالم الداخلي هو العالم الخارجي. يمثل باطن الجسد ميدان الساحر، ويمثل عالم الخارج ميدان المعماري، فالروح تسكن بيت الجسد عند الساحر، والجسد والروح يسكنان البيت عند المعماري. هو العالم الطبيعي الذي تحتله الكواكب والنجوم والاقدار والمخفيات. ومع هذه المزاوجة التي تتم دائمًا على أرض الجسد، لم تترك الآلهة الإنسان في حرية كاملة إلا وترسل عليه الصواعق والأمطار والعواصف والبرد، كما لو كانت الطبيعة الساحر الأكبر الذي يمتحن الجسد البشرية، فاوكلت حياته إلى رسولين هما: هرمس وهتستيا، هرمس رسول الآلهة ينظم حياة البشر الاجتماعية، كما لو كان مهندسًا معماريا يهتم بالطرقات والفسحات والتقاطعات، وينظم الشوارع ومسارات المزارع، وانتظام الأسواق والمحاصيل...الخ، كما لو أنه ينظم معمارية الحياة الاجتماعية، واختصت هتستيا ابنة زيوس العذراء الرافضة للزواج بشؤون البيت داخليًا، مسؤولة عن الأفرشة والستائر والموقد والحياة الزوجية ورعاية الاطفال وتنظيم النور والضوء، كما لو كانت مهتمة بأرواح البشر وتنظيم حياتهم الداخلية والجنسيّة من أجل إنتاج ذرية جديدة، هتستيا ساحرة الجمال البيتي، وهرمس منظم الحياة الاجتماعية واعمالها وشؤونها، هما اللذان توسّعا لاحقا ليصبحا المعماري بصيغة الساحر الفني صانع الجمال، والساحر بصفة المعماري المهتم بتنظيم حياة الروح وجعله يتأمل وينتظر ويكافح، لأن البشر جزء من منظومة كونية يبنى بطريقتين: إعادة بناء ما تهدم من الروح، وإعادة بناء الجسد عندما يستظل بحماية الغيب من عنف الطبيعة.