مقاربة أوليَّة في قوّة التحدي وضعف الاستجابة
آراء
2019/11/19
+A
-A
د. عماد علوّ *
تتباين وجهات النظر حول مفهوم وتعريف الثورة وهو قيام الشعب بقيادة نخب وطلائع من مثقفيه لتغيير نظام الحكم بالقوة. والثورة كمصطلح سياسي هي الخروج عن الوضع الراهن وتغييره باندفاع يحرّكه عدم الرضا أو التطلّع إلى الأفضل أو حتى
الغضب. والتعريف أو الفهم المعاصر والأكثر حداثةً للثورة هو التغيير الكامل لجميع المؤسسات والسلطات الحكومية في النظام السابق لتحقيق طموحات التغيير لنظام سياسي نزيه وعادل ويوفر الحقوق الكاملة والحرية والنهضة للمجتمع.
أما مفهوم الحركة الاجتماعية Social Mouvement فهي سلسة الأفعال والجهود التي يقوم بها عدد من الأشخاص بغرض تحقيق هدف معين، ولا يكتمل تعريف الحركة الاجتماعية، إلّا بوجود عدد من العناصر الاساسية، ومنها جهد منظم وهادف يسهم فيه المشاركون، إذ يضعون لهم اهدافا سياسية منطلقاً للتغيير.
ولكل حركة احتجاجية تاريخ محدد، لحظة بدء وامتداد مسار من البناء وتراكم الخبرات ولحظات تحول يحسم تاريخها وحضورها في المشهد العام. فالاحتجاج ممارسة تنشد التغيير، من اجل صياغة واقع آخر، إنّها ممارسة مسكونة بالتغيير.
وقد شهد العراق ومنذ مطلع شهر شباط عام 2011، موجة من الاحتجاجات الشعبيّة بدأت متأثّرة بالاحتجاجات العارمة التي اندلعت في الوطن العربي مطلع عام 2011 وبخاصة الثورة التونسية وثورة 25 يناير المصرية، في وقت كانت فيه الاوضاع في العراق تشهد تفاقمًا في الأزمة الاجتماعية، ويشهد الوضع السياسي ازديادًا في التعقيد، دفع الى تفاقم الحركات الاجتماعية والاحتجاجية التي عمت عددا من محافظات العراق ومن ضمنها العاصمة بغداد.
هذه التحولات في الحراك المجتمعي وارتباطها بالتحولات في المشهد السياسي، اكتسبت أهمية استثنائية، كونها تعكس جوهر الصراع المحتدم، بتجلياته السياسية والاجتماعية، واحتمالاته المفتوحة على أكثر من مآل. ومن الطبيعي أن عملية الإصلاح تتعارض مع امتيازات ومصالح قوى حزبية وتيارات سياسية وشخصيات متنفذة غير مستعدة للتنازل عن سلطتها، ومن ثمّ فإنّ مطالب ودعوات الإصلاح تجابه مقاومة عنيدة من قبل هذه القوى والاحزاب والتيارات السياسية التي تدافع عن مواقعها ومكاسبها وامتيازاتها التي استحوذت عليها في أعقاب الغزو الاميركي للعراق عام 2003.
كلّ ذلك أدى الى اندلاع تظاهرات شعبيّة واسعة النطاق شهدتها المحافظات العراقية الوسطى والجنوبية، منذ 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، احتجاجاً على تردّي الأوضاع الاقتصادية للبلد، وانتشار الفساد الإداري والبطالة، واحتكار فرص العمل للأحزاب والقوى السياسية المتنفذة وتردي الخدمات الصحية والتعليمية والتباطؤ في اصلاح او اعادة اعمار البنى التحتية مثل شبكات الطاقة الكهربائية والماء والصرف الصحي، وقد وصلت مطالب المتظاهرين إلى استقالة حكومة السيد عادل عبد المهدي، وتشكيل حكومة مؤقتة وإجراء انتخابات مبكرة.. إلّا أنّ اللافت في سياق هذه التظاهرات واسعة النطاق دخول المرجعية الدينية العليا في النجف الاشرف بقوة في تأييدها لمطالب المتظاهرين وتأكيد المرجع الديني الشيعي الأعلى في "العراق"، آية الله السيد "علي السيستاني"، على رفضه تدخلات القوى الخارجية لفرض رأيها على المتظاهرين في بلاده، في إشارة إلى "الولايات المتحدة" و"إيران"، كما شددت المرجعية الدينية العليا على ضرورة احترام إرادة الشعب في اختياره لشكل نظام الحكم و "أن التغيير موكول إلى اختيار الشعب العراقي، وليس لأي شخص أو مجموعة أو جهة بتوجه معين، أو أي طرف إقليمي أو دولي أن يصادر إرادة العراقيين في ذلك، ويفرض رأيه عليهم".
لقد وقفت الاحتجاجات والتظاهرات الشعبيّة الكبيرة التي شاركت بها قطاعات شعبية واسعة، عند عدد من القضايا، هي القضايا الوطنية العامة، مثل موقفها من اجل الهوية الوطنية، وما يترتب على ذلك من ترسيخ قيم الديمقراطية، وحقوق الانسان في التشريعات وموضوعة الخدمات وتوفيرها، وتحسين تقديمها للمواطن، والعدالة الاجتماعية. ومنها ما يتعلق بالدعوة للضمانات الاجتماعية، وضمان السكن، وتحسين التعليم، والبطالة، وتحسين الظروف المعيشية، ومحاربة الفساد. اذ عبر المحتجون عن هويتهم الوطنية بصرف النظر عن تباينهم في إدراك الظلم، واكدت الجماهير التي احتشدت في الساحات في محافظات الوسط والجنوب، وهي في اطار احتجاجاتها على الوضع القائم التمسك بالهوية الوطنية، رغم ارتباطها لدى الناشطين بأنواع الحرمان، وقد أسهمت هذه الحركات في خلق ديناميات اجتماعية وسياسية جديدة، وبهذا فهي أثرت على القيم السياسية في المجتمع
العراقي.إنّ الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية الكبيرة، التي يشهدها العراق اليوم، كانت تعبيرا "واضحا" عن حالة الصراع، الذي هو أساس التطور في وعي المجتمع العراقي باتجاه ضرورة التغيير واصلاح النظام السياسي القائم على اساس المحاصصة الطائفية، وهو على الدوام، شيء غير ثابت، ومرتبط بتطور الأزمات الاجتماعية والسياسية وسواها، ومن الطبيعي القول إنّ الأزمة الاجتماعية والسياسية التي شهدها العراق في اعقاب الغزو الاميركي عام 2003، ارتبطت بمعاناة الناس المريرة في سائر ميادين الحياة، وهي التي أدت إلى عواقب اشتداد الصراع (الذي تمثل بتفاقم واستمرار الحركات الاجتماعية والاحتجاج) الذي لا يمكن حله إلّا بالتغيير.
والتغيير المطلوب في العراق يعني، جوهريًا، ولادة جديد، وهي «عملية عسيرة ومعقدة تتم، عادة، في سياق الصراع بين القوى والاحزاب والتيارات السياسية التي تسلّمت الحكم بعد الغزو الاميركي للعراق في 2003، التي تحاول الحفاظ على امتيازاتها بالاستناد الى ثقافة المحاصصة الطائفية، وقوى تتطلّع إلى المستقبل، ساعية إلى التغيير، وبناء الجديد المتقدم، المنفتح على الاغتناء والتطور.
إنّ ظاهرة الاحتجاجات والتظاهرات الشعبيّة الكبيرة التي شاركت بها قطاعات شعبيّة واسعة، في العراق شغلت المراقبين للأحداث السياسية في العراق، انطلاقا من مساحة تأثيرها على الاحداث السياسية، ومن طبيعة الدور الواسع الذي تلعبه، وقدرتها المتميزة في التأثير، من خلال انشطتها وفعالياتها المتنوعة والمتعددة.
وقد مارست انشطتها عبر وسائل سلميّة جديدة وغير تقليدية، عبر شعارات واضحة واهداف محددة. وتمكّنت من تحشيد نشطاء من مختلف طبقات الشعب العراقي، وفئاته وشرائحه الاجتماعية. اذ تركزت المطالب بالحريات، والحقوق، والكرامة، والعدالة الاجتماعية.
إلّا أنّ حكومة السيد عادل عبد المهدي، شأنها شأن سابقاتها من الحكومات العراقية التي تعاقبت منذ الاحتلال الاميركي للعراق في عام 2003، تبدو عاجزة حتى الآن بالاستجابة لمطالب المتظاهرين خصوصا "في التصدي لظاهرة الفساد المالي والاداري، الذي عرقل عمليات التنمية وتسبب بهدر مبالغ خيالية من العملة الصعبة، فتقلّصت فرص العمل امام الشباب العراقي، وتدنت بل وانعدمت تقريبا" الخدمات العامة، كما تردت قطاعات التربية والتعليم والصحة، والبنى التحتية في قطاعات الكهرباء والماء والصرف الصحي، الامر الذي فاقم وصعّد من نقمة الشارع العراقي لاسيما في المحافظات الوسطى والجنوبية الغنية بالثروات النفطية التي شهدت وتشهد اهمالا "واضحا" في اعادة اعمارها وتفاقم ظاهرة البطالة فيها... ولم تلقَ صدى أو ردَّ فعل ايجابي من لدن الحكومة العراقية والقوى السياسية الكبيرة والمهيمنة على المشهد السياسي العراقي، الأمر الذي سيجعل عملية احتواء نقمة الشارع العراقي واقناع المتظاهرين بجدية القوى السياسية في التعاطي مع مطالبهم مهمة ليست بالسهلة، الفشل بها سيؤدي بالوضع السياسي في العراق الى نفق مظلم وأزمة سياسية ومجتمعية لا يحمد عقباها.
* لواء ركن متقاعد
* مستشار المركز الجمهوري للدراسات الاستراتيجية
* عضو المركز العراقي للتنمية الاعلامية