كفالة الدولة للحريات

آراء 2019/11/20
...

زهير كاظم عبود 
 
إنسجاما مع النصوص الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الخاصة بالحريات، لم يكتف الدستور العراقي ان ينص على تلك الحقوق والحريات، بل أكّد في نص المادة (28) على ان تكفل الدولة بما لا يخل بالنظام العام والآداب: 
اولا : حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل. 
ثانيا : حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر. 
ثالثا : حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، وتنظم بقانون. 
وكفالة الدولة يعني إلزامها بتنمية هذه الحقوق ورعايتها وتحقيق السبل الكفيلة والسليمة لممارستها بوصفها من الحقوق المدنية والسياسية التي تشكّل منهجا أساسيا من مناهج بنية النظام السياسي القائم في العراق. 
ويتجلّى مفهوم كفالة الدولة لتلك الحريات بتنظيم إقرارها وفق القوانين النافذة، ووضع البرامج والآليات التي تعتمد ممارسة تلك الحريات بشكل سلس ومقبول، وضمان احترام تلك الحريات بسن قوانين رادعة تعاقب كل من يقف بالضد من تطبيق هذه الحريات، او يرفض الإقرار بها بوصفها من الحريات التي يتيح الدستور والقوانين ممارستها للفرد
 والجماعة.
وحين ينص الدستور بوصفه القانون الأسمى والأعلى في العراق على هذه الحريات فإنّه يوجب على إتاحة الفرصة والفسحة في الممارسة القانونية لتلك الحقوق، فضلا عن الإلزام القانوني على الدولة لتوفير الشروط الاجتماعية والسياسية التي تتناسب والتمتع بهذه الحريات، ولم يرد نص المادة المذكورة إقرارا فقط بحق الأفراد في ممارسة مثل تلك الحريات إنّما وضع إلزاما على الدولة بكفالتها ان تتيح للأفراد ممارسة هذه الحريات.
الالتزام بكفالة هذه الحريات يجب أن يقترن بالإيمان الحقيقي بتلك الحريات من قبل الدولة، وعلى السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية أن تنسجم مع تلك الكفالة، وان تسعى كل سلطة وفق اختصاصها وضمن مجال عملها بتجنيد كل الوسائل والسبل لاحترام تلك الحريات. 
إنّ ممارسة الحريات يجسّد بشكل عملي المناخ الصحي للتطبيق الديمقراطي عمليا في المجتمع، وتدفع  خطوات التطبيق العملي لتطوير هذه المفاهيم بما يساند ويعزز المجتمع الحر والديمقراطي بشكل فاعل وفق آليّة تدريجية في نشر مفهوم ثقافة تلك الحريات بشتى الوسائل المتاحة. 
ويثار الجدل واسعا حول مديات ومساحة هذه الحريات، وغالبا ما يتم التجاوز عليها من قبل السلطات التنفيذية، وغالبا أيضا ما يتم الالتفاف عليها أو إساءة فهمها وتفسيرها، غير أنّ قاعدة أساسية وقانونية أكد عليها الدستور يمكن أن تكون المرتكز الأساسي الذي تقف عليه قضية الحريات، ومنها احترام الدستور لتلك الحريات وحرصه على ضمان ممارستها وكفالتها من قبل الدولة. 
إنّ تحديدا لمفهوم الحرية الشخصية يظهر ضمن تصور مساحة هذه الحرية وضمن حيز التطبيق  الفعلي والواقعي، سواء في حرية التعبير أو الاعتقاد أو في حرية الجسد أو في حرية المساواة بين الناس، وهناك أنماط من الحرية الشخصية تتعلق بالحقوق الطبيعية للبشر، وهذه الحقوق لا يمكن أن تتقادم أو تنتهي بأي حال من الأحوال، غير أن ما يقرره الدستور من أنماط وأشكال الحريات المضمونة تتفرع إلى العديد من هذه الأشكال كحرية حصانة البيوت وحصانة السيارات بوصفها ملكا شخصيا لها حرمة خاصة وحرية السفر وحصانة المراسلات وحرية إبداء الرأي على سبيل المثال لا الحصر. 
إنّ حماية الحرية الشخصية تقع ضمن مسؤوليات السلطة التنفيذية، باعتبارها المسؤولة عن تنفيذ السياسة العامة للدولة، وان تعمل جميع الأجهزة الأمنية والتنفيذية وفقا لمبادئ حقوق الإنسان ومبادئ الدستور العراقي، وكل خرق او تهاون في الالتزام بهذه النصوص يستوجب المسؤولية القانونية أمام القضاء العراقي المستقل، وهو السلطة التي تستطيع أن تفرض العقوبة الرادعة على من يخرق الدستور ويخالف القوانين، وهو أيضا من يستطيع تحديد التجاوز على الحرية الشخصية، إذ يندمج مفهوم الحريات بشكلها الواسع مع مفهوم الحرية الشخصية، وهذه الحرية مرتبطة بقيم وأعراف المجتمع لا يمكن ان تنسلخ عنه بسهولة، فالانسجام مع قيم المجتمع الخيرة والهادفة الى تيسير سبل الحياة والسلام والخير والمحبة بين الناس هي بحد ذاتها قيم تدفع لتمتين مفاهيم الحرية الشخصية. 
التظاهرات التي تعمّ العراق اليوم تعبر عن ممارسة ديمقراطية سلمية منسجمة مع الدستور، وعلى السلطة التنفيذية أن تستمع لمطالب المتظاهرين وان تعمل على حمايتهم وتوفير جميع مستلزمات كفالة الحق التي نصّ عليها الدستور، وان تسعى في الوقت نفسه الى تشخيص العناصر التي تحاول ممارسة أفعال التخريب والتعدي على المال العام أو الخاص والجرائم التي لا تنسجم مع سلمية التظاهر وان تلقي القبض عليهم وتوفر الأدلة على تلك الممارسات الإجرامية لتقدمهم للقضاء، وبالوقت نفسه عليها أن تسعى للقبض على جميع العناصر التي تجاوزت عملها سواء بقتل المتظاهرين أو التعدي عليهم بالقوة المفرطة وتقدمهم أيضا إلى القضاء العراقي. 
فمن يمارس الفعل الجرمي خارج سياق الممارسة القانونية للتظاهر يتساوى مع من يقوم بقتل المتظاهر بأي شكل كان، وهذا المبدأ يمكن ان يسهل طريق الممارسة الحيّة لحق التظاهر السلمي ويردع من يتجاوز على ممارسي هذا الحق وفق القانون، كما انه يعطي إشارة على صدق كفالة الدولة لتلك الحريات بدلا عن التبريرات والاتهامات، وتعليق تلك الأفعال على الفاعل المجهول. 
إنّ الوفاء بالالتزام بكفالة تلك الحريات من قبل الدولة التزاما قانونيا يضعها على سكة دولة القانون، وتطورا للفكر السياسي والاجتماعي والقانوني أيضا، بما يتحقق من رضوخ السلطة التنفيذية لرأي الشارع العراقي، وفقا لاتباع الممارسة القانونية بشكل واضح وصريح وبما لا يخل بالنظام العام والآداب، والأول يعني مجموعة القواعد والأوامر التي تقوم السلطة التنفيذية بتوفيرها لحماية المجتمع، أما الثاني فيعني مجموعة قواعد السلوك الاجتماعي والخصال المتعارف عليها اجتماعيا وعرفيا والتي يقر بها ويحترمها
 المجتمع.