الموهبةُ لا تتكلّمُ كثيراً

ثقافة 2019/11/20
...

محمّد صابر عبيد
وُجِدَ الكلامُ أساساً لبيان الحجّة وتوضيح المقصود وإدامة الصلة بين جمهور المتكلّمين والسامعين لغايات معرفية واجتماعية وثقافية وإنسانية عامة، وطالما أنّه لا بدّ من الكلام كي تستقيم شروط الحياة وتمشي عجلتها كما يجب فإنّ البراعة فيه ستكون مصدّر تفوّق للمتكلم وتميّزه وتفرّده ونجوميته، يمكن أن تجعل منه شخصاً ذا حظوة متقدمة في كثير من مرافق الحياة وشؤونها وشجونها على مستويات لا حصر لها.
 ولذا فقد برع الشعراء والخطباء والمتكلّمون في جعل الكلام أداة بارزة من أدوات عملهم وصولاً إلى إنجاز أهدافهم وتحقيق مقاصدهم، حتى نشأ في ثقافتنا العربية القديمة لدى المعتزلة علمٌ حجاجيٌّ خاصٌّ سُميّ "علم الكلام" وسُميّ أصحابه "علماء الكلام"، وهو يُعنى عن طريق دراسات عقليّة معمّقة بأصول الدين وقضاياه ويشتغل على الكلام بوصفه أداة للحجاج والإثبات.
يتفاوت الناس في رغبتهم في الكلام أو حاجتهم له أو براعتهم فيه، فمنهم من يكثر منه بلا مناسبة وبلا طائل فيسمّى عند الناس ثرثاراً، ومنهم من يقتصد فيه أكثر مما ينبغي فيسمّى عندهم كتوماً أو صامتاً، ومنهم من يقتصد فيه بحسب الحاجة والمناسبة ليكون تأثيره فيهم أعظم وذلك هو رجل البلاغة إذ توصف البلاغة عادة بالإيجاز، ولكلّ من هؤلاء عادات كلامية متنوّعة ولوازم كلاميّة متكررة يوصفون بها وتظلّ لصيقة بهم لا تزول، لِما للكلام من تأثير بالغ على طبيعة الشخصية وصفاتها وأسلوبها في الحياة وعلاقاتها الإنسانية مع الآخرين، ولعلّ كثرة الكلام تُوقِعُ في الخطأ والزلل أكثر من قلّته لأنّ كثرته تضغط على أجهزة التنفّس لتعيق حركة بعضٍ منها وتحجب جزءاً من حريّتها، وهو ما ينعكس سلباً على صحة الأداء الكلاميّ وفصاحته وفروسيته فيقوده إلى الارتباك والغلط واضطرار تكرار المفردات واللوازم الكلامية من غير مناسبة أو ضرورة، مما يقلّل من سلامته ويزجّه في أنفاق ومتاهات ومشاكل تحسب على المتكلم في النتيجة النهائية ولا تحسب له.
وإذا كان الكلام شكلاً من أشكال الثقافة والوعي والإدراك والتمدّن فيحسن بنا الحديث عن "ثقافة الكلام" ويقودنا هذا إلى أنّ كلّ شعب من شعوب الأرض له عادات كلامية معيّنة، ولعلّ الصفة الغالبة على الشعوب المتحضّرة هي قلّة الكلام وإذا تكلّم الفرد منها فباقتصاد شديد وصوت أقرب إلى الهمس، في حين تبذّر الشعوب الأخرى المتخلّفة بكلامها بلا طائل ولا أهمية ولا عناية ولا فائدة، وبصوت عالٍ يلوّث الطبيعة ويزعج بشرها ويثير قلقها ليكون دالّة على البدائية والتمركز الشديد الأعمى حول الذات.
فلسفة الإصغاء هي واحدة من أعظم الفلسفات التي تحرس الموهبة حين ترغب أن تتفجّر وتتثقّف وتتخصّب وتضيف، لأنّ الإصغاء وعاء صالح للأخذ والتعلّم والإضافة والتطوير على العكس تماماً من الثرثرة التي لا تسمح للعقل أن يسمع سوى صدى صوته، إذ هو غير معنيّ بالآخر وما يقول بل مكترث بما يرغب هو أن يطرق به أسماع الآخر من كلامه الذي لا كلام عنده سواه، فالموهبة وحدها هي التي تصغي لأنها تريد أن تتحرّر من اعتقاد احتكار الحقيقة والتفرّد في الهيمنة على الأشياء، تصغي لمزيد من الرغبة في ضخّ طاقاتها وقدراتها بكل ما يجعلها أرقى وأعمق وأوسع وأخصب حتى تكون قادرة على الابتكار، وساعية إلى ما تيسّر من الإحاطة والتمثّل والتروّي والارتواء مما يسهم في تثمير قواها وتعظيمها.
الموهبة أبوابها كثيرة ومتعددة ومفتوحة على الجهات ولها القدرة على إثبات نفسها من دون كلام كثير لأنها تغلّب الفعل والأداء على الكلام والشرح والتفصيل، وثمة علاقة عكسية دائماً بين الكلام والفعل إذ الكلام الكثير يجعل الفعل أقلّ بينما الفعل على الأرض لا يوفّر فرصة الثرثرة حين يبرز ويؤكّد ذاته على نحو لا يقبل الشكّ، فما يمكن أن يسمح بالشكّ هو الكلام لأنه أداء نظريّ لا يمكن قياس مدى صدقيته في حين يحمل الفعل معه صدقيته للعيان بلا شكّ مطلقاً، فالأفعال هي التي تبقى أما أغلب الكلام فتأخذه الرياح وتشتّته العواصف إلا ما كان منه حقاً وعدلاً يقترب بموهبته من الفعل الحقيقيّ الملموس والواضح والراجح. 
يعدّ الاقتصاد في الكلام ميّزة مركزية من ميزات الموهوب بوصفه يعلم المزيد ويرغب دائماً في مزيد المزيد، وموهبته تثبت ذاتها بسهولة فلا يحتاج إلى كلام كثير كي يقنع السامعين بما يمتلك من موهبة تتجلّى فيما يمارس ويعمل وينتج، وهو لا يعاني من نقص معيّن يدفعه لكثير الكلام لأجل الاعتقاد الواهم بإلغاء النقص بما يهرف من كلام لا معنى له، فالموهبة قيمة كبيرة تملأ فضاء الموهوب بصمت ثريّ نحو مزيد من التعلّم لصقل هذه الموهبة وتدريبها وتخصيب حيواتها، لذا تقترن الموهبة دائماً بالذكاء الذي ينجح في تسيير قطار الموهبة على السكّة الصحيحة المناسبة بلا أخطاء كارثيّة، والاقتصاد محمودٌ دائماً عندما يكون في محلّه ويحفظ كلّ شيء بمقدار وميزان وعلم ووعي، لذا نشأ علمٌ بالغ الأهميّة هو "علم الاقتصاد" يشير اليوم إلى أنّه العلم الأكثر خطورة في حركة المجتمعات الحضارية الراهنة. 
الموهبة لا تحتاج كثيراً من الكلام قطعاً بوصفها تتضمّن الكلام المطلوب كلّه من دون ثرثرة ومبالغة ورتوش وإكسسوارات وماكياج وأقنعة، فالجميل ليس بحاجة إلى أن يشرح جماله، ولا الشاعر مضطرٌّ أن يشرح قصيدته، ولا الرسام ولا الموسيقيّ ولا النحات ولا أي فنان آخر من صنّاع الجمال الذين يأتون أرض الفنّ من بوابة الموهبة. من يحتاج أن يتكلّم كثيراً هو من بحاجة إلى إضافة شيء بالقوّة إلى ما يسعه إقناع الآخرين بصحّته وقيمته وجماله، ولا تنجح هذه المحاولة غالباً لأنّ الدفاع بهذه الطريقة لا يجدي نفعاً كثيراً، ففي جوهر الموهبة قدرٌ عالٍ من القناعة تجعل صاحب الموهبة أكثر ميلاً إلى الصمت لإتاحة الفرصة الكافية لموهبته أن تعبّر عن نفسها وتقول كلمتها بالفعل لا باللسان.