يذكر الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر) في كتابه (دفاع عن المثقفين) أنّه كان يمشي على رؤوس أصابعه عندما كان يدخل قاعات الطلبة المتظاهرين فيما سُمّي بحركة الطلبة والشباب 1968، وكان يرهف السمع الى خطبهم بعمق، لانه كان يعتقد ان حركتهم ما هي الا تعبير عن ارهاصات وحركة لعموم الشعب الفرنسي.
هكذا هي مسؤولية الانسان المثقف على وجه الخصوص اثناء اللحظات الاستثنائية من تاريخ الشعوب.
اللحظات ذاتها هي ما يمر بها العراق اليوم، فيتعيّن على المثقف او حتى غيره ان يسعى الى تعيين ومقاربة مكامن ومحركات المتظاهرين في ساحة التحرير وميادين أخرى في العراق، فمرجعية المتظاهرين تطرح نفسها بقوة، لاسيما أن مكوناتهم المجتمعية متنوعة ومتباينة.
المدهش في الانتفاضة هي انها تتقدم بثبات نحو شهرها الثاني ولم تعلن عن مرجعيتها الايدويولوجية او الدينية او السياسية، او ميلا لها لجهة حزبية، رغم ظهور العديد ممن تحدث من المنتفضين الشباب عن الانتفاضة وجديدها الذي يمثل قطيعة عن ماضوية متجسّدة في منظومة سياسية او مذهبية او ايديولوجية، كما وانهم قطعوا الطريق عمّن يسمّون انفسهم بـ -المليونيين- للصعود على موجة التظاهرة.
الحقيقة أننا نشهد ابتداءً من الاول من تشرين الاول 2019 حراكا نوعيا منقطعا عن تداعيات المادة الثانية من دستور 2005 التي تنص أن المجتمع العراقي عبارة عن مكونات متشظية لمذاهب وأعراق وإثنيات.
أهم ما يؤشر هذا الانتفاض هو نوع الوعي التاريخي المفارق عما سبقه، تجسد في تحول هو الاخر نوعي في التنظيم والتنسيق، يتم عبر وسائل تتماهى مع معطيات وتقنيات حديثة، رقمية، وغيرها في منتهى المرونة والديناميكية، تتمثل في ربط ناجح بين واقع افتراضى يقترن بواقع حقيقي، تجسده فعالية فائقة وفعل بطولي جسور وشجاع ومطاولة.
وقفة لنا بسيطة امام معطيات التظاهرات محفزة بتعاطف عضوي، ندرك خلالها ان ما يجري هو حركة تنطلق من اعماق المجتمع العراقي بارهاص يشتمل على صوت هادر هو النبض الاجتماعي العميق بكليته متضمنا وجعه وأمله وكل تطلعاته، وكان على هذه الشبيبة الحيوية ان تتحمّل مسؤولية التعبير عن هذا الهاجس الاعمق للصوت العراقي.
لقد كان حضور الخطاب الوطني في التظاهرات الاخيرة قويا، منجزا، وحدته التي حاولت الانساق الطائفية طمسه وتمزيقه، حتى تجمعت كل هذه المشاعر مختزلة في عبارة مؤلفة من كلمتين فقط. هي (اريد وطن)، استطاعت ان توحّد فيض المعاني.
سباق الوعي لدى الجيل الشاب الذي يقف بصدور عارية مواجها الموت في وسط العاصمة بغداد وجميع مدن جنوب العراق بدا للمتابعين للاحداث بما تحمله من صور دراماتيكية وكأنه يعلن شبه قطيعة عن الماضي السياسي لتاريخ العراق الحديث.
السلطة لم تستوعب الملامح الجديدة لجنين الانتفاضة، ولم تدرك انه لم يرث صفات أجيال سبقته، ولم تتنبه في حمى تكالبها على الثروة وسعيرها الطائفي، ان هناك عالما جديدا يولد من رثاثة عالمها وانغلاقه في فترات زمنية بعيدة من التاريخ، لم يخطر في حساباتها أنّها ستقف في فترة قياسية من عمرها السلطوي في مواجهة جيل يحمل وعيا حادا وسمات
خاصة.
لقد رفض المنتفضون حتى دعوة قوى أخرى تدّعي حمايتهم، وهذا يعني أنّهم ليسوا بحاجة الى ان يستندوا الى تاريخ قوة سياسية او دينية مهما كانت، ولكن الذي عزز من عزيمتهم وشدد من ارادتهم هو موقف مرجعية النجف المشرّف، والذي احاطهم بهالة وطنية ساطعة وزخم كبير في الصمود والثبات.
إنّ مجرى الانتفاضة لهؤلاء الشباب بدا يتوسّع يوما بعد يوم، بانخراط شرائح مجتمعية كانت راكدة، قبل تاريخ اكتوبر، ولكنها اليوم وجدت نفسها في غمرة اتون ثورة الوعي المجتمعي الجديد.
إنّ أفظع مظاهر الصدمة التي بانت على مركّب السلطة هو أنّ المدن بغداد ووسط العراق وجنوبه، والتي كانت معاقل تحتمي بها من خطر الزوال، ظهرت اليوم وكأنها أرض الزلزال الذي يتحرك تحت اقدام السلطة، لقد استنفدت الاخيرة ممكناتها في استغلال حشود اليوم الثائرة، كما كان يجري سابقا، مستفيدين من عاطفتهم الدينية الاصيلة لخدمة مصالحهم
واجنداتهم.