عواجل الأخبار وأزمة المصداقيَّة

آراء 2018/11/22
...

حمزة مصطفى
على عهد الصحافة الورقيّة لم يكن هناك خبرٌ عاجلٌ حتى لو كان حصريّا. ففي النهاية لن يرى النور مهما كانت أهميته إلّا في اليوم التالي منذ الساعات الأولى من الصباح عند طبع الجريدة وتوزيعها, أي مع شروق الشمس. هذا الأمر ينطبق حتى على الإذاعات ومن ثمّ التلفزيونات  عند أول ظهورها في القرن الماضي. فالسياق المتبع كان بثّ الخبر متمثلا بمضمونه ومهنيته واحترافيته لا بمجرد أسبقيته. بمعنى أن الخبر كثيرا ما يكون مرتبطا بحدث أو معلومة لايبث إلّا بعد إكتمال كلّ عناصره وأهمّها أن يكون خبرا فيه كلّ متطلبات الجدّة والموضوعية وليس مهما أن يكون مثيرا أم لا.     
لكن بعد ظهور الإعلام الرقمي وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي تغيّرت الأحوال. فبعد التطبيقات الخبريّة على الهواتف النقّالة الذكيّة التي أوجدت لنا ما بات يُسمّى "المواطن الصحفي" الذي بإمكانه تصوير أو إرسال أيّ خبر يمثّل حدثا وقع أمامه بحيث تتلقفه كلّ وسائل الإعلام في الدنيا بصرف النظر عن أهميته أو مصداقيته أو  جدارته الخبريّة صياغة ومهنية واحترافا بات السباق نحو العاجل بوصفه هدفا بقطع النظر عن مضمون الخبر أو أهميته. مما ضاعف من كمية استهلاك مفهوم العاجل للخبر هو طبيعة التنافس بين مختلف وسائل الإعلام بحيث صار يصعب التمييز بين العاجل الحقيقي والآخر الوهمي.
وإذا عدنا الى حكاية الصحف الورقيّة التي تعيش عصرها الأخير بعد أن احتكرت طويلا الخبر والقصّة الخبريّة والتحقيق والمقابلة وكلّ أشكال الفنون الصحفيّة فإنّها لم تعد تتعامل مع الخبر بوصفه واقعة آنية (بمعنى وصل أو غادر أو استقبل أو ودّع). فهذا النوع من الأخبار باتت تتنافس عليه القنوات والوكالات بينما بقيت الصحف تحتكر حتى اللحظة المعلومة الخاصة. ففي عالم اليوم وبرغم التنافس الشديد بين كلّ وسائل الإعلام وتطبيقاتها فإنّ الصحيفة الورقيّة لا الإذاعة حتى لو كانت البي بي سي، ولا القناة حتى لو كانت السي أن أن، ولا الوكالة حتى لو كانت رويترز، هي من تكشف أمرا جديدا في أيّة قضية خطيرة من قضايا العالم بل الصحف العالمية الرصينة فقط.
لنأخذ مثلا واحدا بواقعة أخيرة وهي قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي. فعلى الرغم من كلّ العواجل التي كانت تتبارى في نقل ماتعتقده معلومات بشأن حيثيات قضيته فإنّ كلّ الوقائع الرئيسة في تلك القضية المثيرة والتي لاتزال تشغل الرأي العام العالمي احتكرت التعامل معها من منطلق المعلومات الدسمة هي صحف نيويورك تايمز, والواشنطن بوست, والغارديان وسواها من الصحف الكبرى وليس الوكالات أو حتى القنوات التلفازية.
السبب في ذلك يكمن بالدرجة الأساس في الفارق بين المساحة التي يعمل فيها الطرفان. فالصحيفة لاتعمل على طريقة عواجل تبدو بديهيّة في الغالب بل تحرص على استكمال كلّ جوانب المعلومة والتقصّي عنها ومحاولة توثيقها بقدر كبير من المصادر الصحيحة, بينما الوكالات والفضائيات حتى تلك التي تبدو رصينة لم يعد أمامها سوى الانجرار خلف عواجل افتقدت في الغالب كلّ عناصر المهنية والاحتراف وحتى المصداقية ولو على طريقة الشمس أشرقت أوالبحر أزرق أو الجبال راسخة.