د. حسين القاصد
فجأةً ودون سابق إنذار، تغيّر شعار المتظاهرين من (نازل آخذ حقي) إلى (أريد وطن)!، ولقد علّمونا منذ تلعثم وعينا وجعلونا نردد شعارات (نموت ويحيا الوطن!) عجباً، إذن لماذا نموت ويحيا الوطن الذي نريده؟ وقبلها علّمونا أن نموت في سبيل الله، وقد قلت، ذات مرة، هل يعترض الله عز وجل، على أن نعيش في سبيله؟ بقينا هكذا حتى انتهى عصر الايديولوجيات ودخلنا زمن (التكتك)؛ فصار للناس بعد تظاهرات مطلبية عدة، قوبلت باصلاحات ترقيعية إلى أن تفاقم الأمر، صار للناس أن ينزلوا ولسان حال المواطن المبتلى أن ينادي (نازل آخذ حقي) وهو شعار مطلبي عظيم، ويوجب الاستجابة من الجهة المقابلة وهي المنظومة السياسية التي لم تنكر تفشي الفساد في مفاصلها ووعدت بمعالجات واستجابات سريعة.
لكلّ ذي حق أن يأخذ حقه، وعلى كل مستلب لحقوق الناس أن يخضع للحساب الشديد، كي ينعم الناس بأبسط حقوقهم وتزول الفوارق الطبقية بين الناس المحرومين من أبسط حقوق المواطنة وبين حيتان الفساد الذين تسبّبوا بهذه الأزمة الكبرى التي لم تكن في حسبانهم أن يخرج الناس عليهم بصوت غاضب (نازل آخذ حقي).
للمواطن على دولته حقوق كثيرة وأبسطها العيش الكريم والأمان والضمان الصحي والتعليم وتوفير الخدمات، لكننا صرنا نرى تفريطا بحق متاح وهو حق التعليم في محافظات دون غيرها، وهذا الأمر سيسبب اضطرابا كبيرا وتفريطا بحق عظيم ممن يعاني من استلاب حقوقه.
إنّ تعطيل الحياة الدراسية في بغداد ومحافظات الجنوب يجعل العملية التعليميّة عرجاء؛ ذلك لأنّ البلاد مرت بمحنة أكبر فلم يتعطّل التعليم، وأعني بها مرحلة الظلام الداعشي المقيت، وهي المرحلة التي كانت تستحق شعار (أريد وطن) بعد أن اقتطع الظلاميون ثلث العراق، لكن العملية التعليمية استمرت وانتقلت الجامعات إلى مواقع بديلة إلى أن تحررت المدن من دنس الدواعش وعادت جامعاتها ومدارسها.
الآن، ومع تصاعد اصوات المتظاهرين المطالبة بالإصلاح السياسي، نرى ونسمع دعوات للاضراب عن التعليم، وحين نقول ليستمر التعليم ويتظاهر الطلبة وأساتذتهم بعد انتهاء الدوام، يعترض علينا صبية ممن تأخذهم العزة (بالفيس) ويقولون وماذا تنفع الشهادة بلا تعيين؟! وكأنّ التعليم فقط للتعيينات، أو كأنّ الوطن ينحسر بالتعيينات وتخوين من يدعو إلى استئناف الدراسة.
يستقتلون بالإصرار على الإضراب عن التعليم، ويتظاهر معهم المدرّس المنقطع عن مدرسته لكنّه لم ولن ينقطع عن التدريس الخصوصي!.
يبدو أنّ بعض الذين ركبوا موجة التظاهرات تركوا حقوق الناس، ونسوا الخدمات وانشغلوا بالاصوات العالية المهيمنة على خطابهم، لذلك صار كلّ منهم يريد وطنا على مقاساته؛ فهذا يريده بلا حياة مدنية ويطبق عليه بقوانينه الدينية، وذلك يريده بلا مدارس لحين تحقيق مطالبه، لأنّه لم يتعيّن بعد إكماله الدراسة يرى أنّه ليس للآخرين أن يستمروا بالدراسة، على طريقة: (إذا مُتُّ ظمآناً فلا نزلَ القطرُ) وهي الطريقة الأنانيّة المقيتة.
أنا لا أريد وطناً بهذه الطريقة، وهذه المواصفات، بل أريد أن أحذف همزة (أريد) وأقول (نريد وطنا) للجميع لاتتعطّل الدراسة في مدن منه وتستمر في بقية أنحائه، نريد وطناً على طريقة:
فلا نزلتْ عليَّ ولا بأرضي
سحائبُ ليسَ تنتظمُ البلادا
هكذا يصح الشعار، نريد وطنا وننزل نأخذ حقاً مضاعا دون أن نتنازل عن حقنا في التعليم ونتخلّف عن الآخرين حتى من ابناء وطننا الذين لم تعطّل مدارسهم وجامعاتهم التظاهرات.