(الظاهرة الكلثومية) اسطورة انبثقت من أعماق الدلتا
ثقافة
2019/11/25
+A
-A
الكتاب : صوت مصر .. أم كلثوم والأغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين
تأليف : فرجينيا دانيلسون
ترجمة : عادل هلال العناني
الناشر : المركز القومي للترجمة - القاهرة
تعد أم كلثوم أبرز شخصية في عالم الغناء العربي الحديث ، وقد استطاعت ان تؤسس لنفسها مكانة في تاريخ القرن العشرين ، لقبت بـ كوكب الشرق، توفيت عن عمر يناهز 71 عاما . وحين رحلت أم كلثوم في العام 1975 كان مقررا أن يشيع جثمانها من جامع عمر مكرم الشهير بوسط القاهرة، غير أن الملايين اختطفوا النعش وحملوه على اكتافهم ثلاث ساعات في شوارع القاهرة حتى مسجد سيدنا الحسين، يربط الكثير بين جنازتها وجنازة جمال عبدالناصر، والفارق بينهما حيث عدد المشيعين الذي وصل الى الملايين وهذا ما لفت نظر الباحثة الاميركية فرجينيا دانيلسون في كتابها (صوت مصر أم كلثوم الاغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين) فرجينيا متخصصة في الموسيقا،
وجمعت في هذا الكتاب التخصص الدقيق ورواية السيرة الذاتية للفلاحة المصرية التي صنعت أسطورة في الغناء المصري، انتقلت الباحثة بين القاهرة والاسكندرية والمنيا، وأجرت مئات المقابلات مع معاصري أم كلثوم من الادباء والموسيقيين، وعكفت على قراءة عشرات المقالات والموضوعات في دوريات القرن الماضي. وعلى الرغم ان هناك مئات المؤلفات التي صدرت عن (سيدة الغناء العربي) فإن هذا الكتاب له مميزات عدة، إذ انه نتاج جهد خمس سنوات من البحث النظري والميداني في مصر وخارجها، وتم وضع الظاهرة الكلثومية في سياقها التاريخي وربط صعودها بمجريات التغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي في مصر أوائل القرن العشرين عبر قراءة مجموعة من الصور الفوتوغرافية والوثائق النادرة ومصادر مختلفة في دراسة أم كلثوم وتحليلها.
الرهان الاساس للكتاب هو دراسة الدور الذي يضطلع به الفرد الفذ في الثقافة التعبيرية ، قامت مؤلفة الكتاب. فرجينيا دانيلسون، بجهد بحثي على عدّة مستويات محاولة سبر أغوار المجتمع المصري وتحليل بنيته السياسية والاجتماعية والثقافية في عصر أم كلثوم، كما سعت لتحليل بنية الموسيقا وعلاقتها بالوجدان في ذلك الزمن. وكيف أصبحت هذه الموسيقا فيما بعد جزءاً لايتجزأ من هوية الإنسان المصري .
رحلة الاسطورة من أعماق الدلتا
تتابع فرجينيا دانيلسون السيرة الذاتية لابنة الشيخ ابراهيم البلتاجي منذ مولدها في العام 1904 أبوها امام مسجد قرية صغيرة في أعماق الدلتا (طماي الزهايرة بالدقهلية)، ولم تكن تضم أكثر من 280 بيتا، ولايتجاوز عدد سكانها 1600 شخص. أما بيتها، فكان شأنه شأن البيوت الفقيرة في القرية مبنيا بالطوب اللبن، ومنذ سن الخامسة بدأت في الذهاب إلي (كتاتيب) القرية لتحفظ ما تيسر من القرآن ومبادئ القراءة والكتابة. وشأن الفقراء أيضا، بحث والدها عن أي مورد رزق يضيف الى دخله الضئيل من عمله في المسجد، فمضي يحيي بعض الافراح وحفلات الطهور بأداء الاغاني الدينية في القرى القريبة، ويساعده ابنه خالد وابن اخيه صابر.
كانت الطفلة الصغيرة أم كلثوم تسترق السمع إلى أبيها وهو يدرب أخاها على أداء الاغنيات فحفظتها عن ظهر قلب، وحين اكتشف أبوها ما تفعله أدرك على الفور أن صوتها كان فريدا في قوته، وطلب منها أن تحضر دروس تدريب شقيقها خالد. وأخيرا جاءت الفرصة بالمصادفة عندما مرض خالد ولم يتمكن من الذهاب مع ابيه إلى بيت عمدة القرية لاحياء احدى الليالي، فقامت هي بالغناء بدلا منه وارتدت ملابس بدوية بحيث بدت كأنها صبي.
وتلفت الباحثة النظر إلى الدور الذي لعبه القرآن في تشكيل هذه الظاهرة المعجزة، فقد كان أول ما صافح أذنيها وهي بعد طفلة ترتله وتجوده، فضلا عن الانشاد الديني بمقاماته العربية الاصيلة، ما ميزها منذ اللحظة الاولى ومنحها ذلك الوضوح الناصع في نطق الحروف.مع والدها رحلت إلى عشرات القرى والمدن الصغيرة لاحياء الافراح والحفلات مرتدية زيها البدوي تغني المدائح النبوية وما تيسر من الانشاد الديني، ولاتنسي الباحثة ان تتحدث عن الظروف الاجتماعية والسياسية في تلك الفترة ونجوم الغناء والموسيقيين وأصول هذا الفن ومن تأثرت بهم أم كلثوم.
لكن فكرة الانتقال إلى القاهرة لم تكن قد طرأت مطلقا على ذهن الاسرة الصغيرة التي كان دخلها قد ازداد من الحفلات، وأصبحت تحصل على جنيه كامل عن كل حفلة، بالاضافة إلى اشتراطها أن يوفر أصحاب الفرح لها (ركوبة) للانتقال من محطة القطار وحتى القرية التي سوف تغني فيها.
الانطلاق في السياق التاريخي للمجتمع المصري
لعبت الصدفة للمرة الثانية دورها مع أم كلثوم في أحد أيام العام 1919، حين حضر الفنانان العظيمان ابوالعلا محمد وزكريا احمد الى مدينة السنبلاوين القريبة من قرية ام كلثوم لإحياء احدى ليالي رمضان، وكان من الطبيعي أن يحرص الشيخ ابراهيم وابنته ام كلثوم وابنه خالد على الاستماع إلى الشيخين أبوالعلا وزكريا احمد اللذين كانا من أساطين العصر ونجومه اللامعة. أما الشيخ ابراهيم فقد تمسك بدعوتهما لزيارته في بيته، إذ غنت لهما أم كلثوم التي كانت في الخامسة عشرة من عمرها فأعجبا بها بشدة، بل وطرحا علي أبيها فكرة الانتقال إلى القاهرة، وبمساعدة زكريا أحمد أمكن لأم كلثوم أن تغني للمرة الاولي في حفل زفاف بالعاصمة. لم تكن القاهرة مفروشة بالورود أمام فتاة صغيرة حريصة علي الظهور دائما بين أبيها وشقيقها بالزي البدوي المحتشم في بيئة كان معروفا عنها الانحلال. لكنها أصرت على الصمود وأن تستمر بزيها المحتشم وسلوكها الخشن نفسيهما كفلاحة، وبانتصاف عام 1922 كانت قد قدمت حفلات ناجحة على مسارح وسط المدينة، وسرعان ما أثبتت وجودها كمغنية محترفة. بعد استقرارها في القاهرة غنت على مسرح البوسفور الواقع في ميدان رمسيس، وعلى مسرح حديقة الأزبكية تغني بدون فرقة موسيقية، وأصدرت أول اسطوانة موسيقية لها وكانت لأغنية (وحقك أنت المنى والطلب) وباعت منها نحو 18000 اسطوانة فحققت نجاحا منقطع النظير. كتاب الباحثة الاميركية لم يكن مقصورا على أم كلثوم وحدها، بل وانما على رسم صورة بانورامية للحياة الاجتماعية والسياسية في بيوت النخبة والاثرياء الذين أثروا على نحو مباشر في تطور الموسيقا والغناء، فضلا عن دور المسرح الغنائي، ثم انشاء الاذاعة المصرية، وكذلك الدور الذي لعبته نجمات العصر ( توحيدة ومنيرة المهدية وفتحية احمد وبديعة مصابني ومحمد عبدالوهاب، وقبل كل هؤلاء الشيخ سيد درويش).
تعلمت بعدها أصول الموسيقا على يد الملحن أمين المهدي كما تعلمت العزف على العود من محمد القصبجي وأمين مهدي ومحمود رحمي، وفي العام 1923 غنت أمام المطربة منيرة المهدية التي كان يطلق عليها لقب (سلطانة الطرب) كما التقت بمحمد عبد الوهاب أيضا، والتقت الشاعر أحمد رامي عن طريق الشيخ (أبو العلا محمد) ، عندما كانت تغني في إحدى الحفلات أغنية (الصب تفضحه عيونه) وسمعها أيضا الملحن محمد القصبجي، وكان طبيب الأسنان أحمد صبري النجريدي يهوى الموسيقا وهو أول من لحن لأم كلثوم أغاني خاصة بها.
ليلة أم كلثوم
(كانت قيمة البث المباشر بعد انشاء الاذاعة المصرية في العام 1934 بالنسبة لمكانة أم كلثوم في الثقافة المصرية أكبر من قيمته كواحد من مصادر دخلها، فقد أدى البث المباشر المنتظم إلى ترسيخ الاصطلاح على أن الخميس الأول من كل شهر هو (ليلة أم كلثوم) ويعد هذا المصطلح احد المرتكزات الاساسية في تشكيل الذاكرة الجماعية ليس في مصر وانما في العالم العربي فقد ظلت (الجماهير العربية) على مدى عقود عدة حريصة على الاستماع إلى حفلاتها التي تنقلها الاذاعة ليلة الخميس فالام والابناء في جو أسري حميم يسهرون معا، أو تتجمع أسر عدة في أحد البيوت للسهر ليلة الخميس الأول من كل شهر، فكان صوتها وأغنياتها تجسيدا لكل معاني الوحدة الاجتماعية ، وكاد الخميس الاول من كل شهر يكون عيدا بحق لاتستطيع النظم والحكومات أن توقفه أو تؤثر فيه)
الافلام السينمائية
تابعت الباحثة على نحو دقيق الافلام السينمائية الستة التي لعبت بطولتها أم كلثوم والأغاني التي غنتها في هذه الافلام، وتأثير السينما في صورتها، ثم حياة أم كلثوم الشخصية التي كانت أنموذجا للوضوح والاستقامة، وكذلك قوة شخصيتها التي تميزت بها في علاقتها بوحوش السوق التجارية في الموسيقيا والغناء. تشير الكاتبة إلى استخدام أم كلثوم لوسائلها التجارية لتحسين وضعها داخل الوسط الفني وفي المجتمع ككل. فاحراز الثروة كان وسيلتها لتحقيق المستوى الاجتماعي الجيد وتمكين سلطتها في الوسط الثقافي والفني. كما تبرز الكاتبة سر تطور الأداء الموسيقي والتعبير لدى أم كلثوم فهي لم تغن فقط بل كانت تعيش الأغنية.
الغناء والسياسة
أولت الباحثة فرجينيا دانيلسون عنايتها لما يمكن أن نطلق عليه الجانب (السياسي) في شخصية أم كلثوم فبعد هزيمة 1948 دعت أم كلثوم جميع أفراد كتيبة الفالوجا التي حوصرت اثناء الحرب الى حفل استقبال في بيتها تعبيرا عن تضامنها معهم لأن الكتيبة رفضت الاستسلام، وكان من بين ضباطها جمال عبدالناصر الذي حضر الحفل والتقي بأم كلثوم، بعد ثورة 1952 تم التعامل بشكل سلبي مع ام كلثوم وكل ما يمت بصلة إلى العهد الملكي، فتم منع أغانيها من الإذاعة المصرية وأقيلت من منصب نقيب الموسيقيين لأنها اعتبرت من مطربات العهد المباد إذ غنت للملك فؤاد، إلا أن هذا التصرف كان تصرفا فرديا سرعان ما سمح لأغانيها أن تبث مرة أخرى من الإذاعة المصرية، وأصر عبدالناصر على الاعتذار لها وعادت أغانيها للاذاعة، بل وانشأ اذاعة خاصة لها ظلت تذيع أغانيها بين الخامسة والعاشرة مساء بين أغان أخرى للعديد من المطربين والمطربات.بعدها اعطتها الثورة دافعا قويا وذلك بتكليفها باختيار النشيد الوطني للبلاد، وعنما تكونت اللجنة الموسيقية كانت هي وعبد الوهاب ورياض السنباطي جنبا إلى جنب في هذه اللجنة، وأصبحت عضوا شرفا في جمعية (مارك توين العالمية) ومن أعضاء هذه الجمعية (الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل وتيودور روزفلت) ولعل آخر مآثر كوكب الشرق سلسلة الحفلات التي اقامتها داخل مصر وخارجها في أغلب العواصم العربية وبعض العواصم الاوروبية وخصصت دخلها للمجهود الحربي بعد هزيمة 1967 وهو ما رصدته الباحثة الاميركيةبدقة.
نهاية ايقونة
في العام 1971 بدأت صحة ام كلثوم بالتدهور فتوقفت عن تقديم الحفلات، إذ كانت حفلتها التي قدمت فيها اغنية (ليلة حب) هي آخر الحفلات التي قدمتها، وذلك في العام 1972 وتوفيت أم كلثوم في الثالث من شهر شباط لعام 1975، وشيعت في جنازة مهيبة وكان عدد المشيعين يتراوح بين الثلاثة والأربعة ملايين شخص.إذ اعلن الحداد العام بعد وفاتها.