حكمةُ زيارةِ أبي نؤاس لأبي نؤاس

ثقافة 2019/11/25
...

عبدالزهرة زكي

 
                   
صبيحة عيد
أنا جئتُ فجرَ العيدَ تمثالَ الفتى
الحسنَ بن هاني،
فأطرتُ بين يديه أغربةَ التهاني.
وسألتُه عما يرى في العالمِ الدامي القبيح،
فسمعتُه، ملءَ المسامع، قائلاً متحسّراً:
أنا لا أرى في الأرضِ إلا ما ترى.
فدعِ الفصاحةَ واملأ الكأسَ الصفيح
خمراً، فمذ صُبَّ النحاسُ عليَّ والتفّ الحجر
وتصايحت سَحَراً على كتفيَّ أطيارُ السما
وأنا أمدُّ الكأسَ فارغةً فما
ينصبّ فيها غيرُ أوشالِ المطر.
 
حسب الشيخ جعفر
من ديوان (الفراشة والعكاز)
 
بتصوّرٍ ما سيبدو تاريخ الشعراء على أنه تاريخ شاعر واحدٍ، إنما يتجلى هذا الواحد بكيفيات يمكن أنْ تكون لا نهائية.
الشعر متغيِّر ومتنوّع، بتغيّر وتنوّع النصوص. لكنَّ الشعراء، عبر التاريخ، واحدٌ، دائماً ما يحضر بنسخ مختلفة بأسمائها ولكن متطابقة
 بجوهرها.
ليس صعباً أنْ نقف عبر التاريخ عند تطابقات في السيرة الشاملة لهذا الشاعر متكرّر الظهور بنسخ مختلفة. إنها سيرة ينتجها الشعر وإنْ كانت الحياة، ومعها إرادة الشاعر، الشاعر المثال، تظل موجِّهة لخطوط سير هذه السيرة وتعثرها وتقدمها.
تتكامل هذه السيرة المفتوحة، وتتطابق حيناً وتتعارض أحياناً ما بين الشعراء، لكنْ كل هذه التعارضات والتطابقات تتكامل مع بعضها وهي ما ينتج السيرة الشاملة للشاعر المثال.
بتصورٍ آخر قد نكون قادرين على أنْ نستعيد من خلال حياة أي شاعرٍ فردٍ تجلياتٍ، بقدرٍ ما، من السيرة الشاملة التي نفترضُها للشاعر المثال. ستكون هذه الحياة المؤسِّسة للسيرة الشاملة ليست مجرد تفاصيل الحياة اليومية ووقائعها، مع أهمية هذه التفاصيل، وإنما أيضاً الحياة العميقة، غير المنظورة، للشاعر، بتقلباتها وتغيراتها، بانكساراتها وتقدمها، بانطفائها وتوهجها.
في شعرنا العربي القديم غالباً ما أتوقف عند صورة تكاد تتطابق، لكنها تتنوع تنوّعاً خلاقاً، وذلك كلما انشغلت بشعراء مثل امرئ القيس وأبي نؤاس والمتنبي، وثلاثتهم من أجيال وأزمنة مختلفة وظروف متنوعة. الفوارق والاختلافات في التفاصيل الواقعية لهؤلاء الشعراء لا تلغي تكامل السيرة الشاملة التي يمكن استخلاصها من الشعر ومن الطبائع الشخصية لكل منهم، بينما يمكننا إضافة شعراء كثيرين آخرين لقائمة الشعراء الثلاثة الذين ذكرتهم.
الشعراء حَمَلة الجوهر اللا مرئي للشعر، هذا ما يوحّدهم بسيرة شاملة. بينما الشعر نفسه في تغير لا نهائي، وهذا ما تجسّده النصوص الشعرية النادرة، وهي متن ديوانٍ لا يريد أن يكتمل.
***
مع هذه القصيدة، صبيحة عيد، أعود مرّةً أخرى قارئاً لديوان (الفراشة والعكاز) لحسب الشيخ جعفر، وهو ديوان مهم في تجربة حسب وفي طبيعة مشاغله الأخيرة كما يفصح عنها
 الديوان.
في المرة السابقة التي تناولت فيها قصيدة قصيرة أيضاً، من قصائد الديوان، كما هو شأن وطبيعة هذه القصيدة وقفت عند انشغال متأخر تكرس معظم الديوان من أجله، وكان حسب الشيخ جعفر بهذا الانشغال يعود، من موقعه الحاضر، إلى أشدّ اهتماماته الشعرية والحياتية التي تكرّست من أجلها دواوينه الشعرية الأولى، وبالأخص (الطائر الخشبي) و(زيارة السيدة السومرية) وإلى حد ما ديوان (عبر الحائط في المرآة).
في (الفراشة والعكاز)، وقد صدر في مطالع العقد الأول من الألفينية الثالثة، يعود حسب، شيخاً، إلى عوالم وموضوعات وشخوص حسب الشاب، ويتأمل فيها بمهارة الشاعر الخبير، والمهارة وحدها هي ما حررت هذه العودة من رومانسيتها المتوقعة، وصانتها من نزعة التصابي التي يمكن أنْ تهدّد تلك العودة فتحيلها عبثاً شعرياً لا قيمة له إن لم يسئ للتجربة بطورها الشاب. في معظم قصائد (الفراشة والعكاز) تجري العودة إلى العوالم الستينية، عوالم التجربة الحياتية لحسب الشاب، إنما هي عودة من موقع الشاعر الشيخ، ومن موقعه في حياته الراهنة بعد عقود صاخبة بانكساراتها مضت على ذلك العقد وعلى تلك المرحلة الشبابية التي أنتجت تلك الدواوين الأولى بوهجها الطافح بالحب والجمال وبالحرية فيهما.
في المرة الأولى كتبت عن قصيدة أخرى من الديوان كان حسب يعود فيها إلى واحدة من نساء موسكو في قصائده المبكرة الشابة، وكان هذا اهتماماً شعرياً أساسياً في تجربة الشعر، لكن في هذه المرة الثانية التي أعود فيها إلى الديوان سنقف عند اهتمام ثانٍ أصيل وفاعل في تجربة ووعي ووجدان الشاعر حسب الشيخ جعفر، شاباً، وهي أيضاً عودة من موقع حسب الراهن ومن زمننا، والزمن الراهن للشاعر
نفسه.
في قصيدة (صبيحة عيد) يعود حسب الشيخ جعفر إلى الحسن بن هانئ، أبي نؤاس، لكنها أيضاً عودة أخرى محكومة بزمنها وظرفها، إنهما زمن وظرف غير زمن وظرف تلك الرفقة التي جمعت الشاعرين في دواوين حسب الشيخ جعفر المبكرة.
في هذه القصيدة يتغير حسب عن حسب الشاب، الستيني السبعيني الذي كان يتحرى في الحسن بن هانئ سحر مدنيته وخمرياته وافتتانه
 بالجمال. تباغت هذه القصيدة قارئها باستهلال يتحدث فيه الشاعر المعاصر عن زيارة تبدو غير متوقعة ومفاجئة، بصبيحة عيد، للشاعر القديم، للرفيق والنديم القديم، لتمثال الحسن بن هانئ ببغداد في الشارع الذي يحمل اسمه. لا تبدو التهنئة بالعيد شغلاً أساسياً في هذه الزيارة، بل هي تبدو، بموجب تعبير القصيدة، تقدمة نافرة (فأطرت بين يديه أغربة التهاني)، وأغربة جمع غراب، وهو مما لا يستحب بمثل هذه المناسبة وبموجب السياق الثقافي العربي المتشائم من هذا الطائر. ما هو مهم في هذه الزيارة للنديم القديم هو ما يتساءل عنه الشاعر الحي وينتظر إجابةً عليه من الشاعر الميت، من تمثاله: (عما يرى في العالم الدامي القبيح). 
في (صبيحة العيد) يزور أبو نؤاس، الشاعر المعاصر، أبا نؤاس، الشاعر القديم. الروح الحية تزور الروح الآفلة، إذا ما اعتقدنا بمبدأ السيرة الشاملة.
الروح الحية لا تنشغل بالعيد الذي هو مناسبة القصيدة وعنوانها، لم تعد تتحرى بهذه الزيارة عما كانت تتحرى عنه في شبابها من جمال تلك الروح الآفلة وفتنتها وسحرها، إنها تستنجد بها فقط لمصادفة جواب عما جعل العالم دامياً
 وقبيحاً.
لم يتلق الشاعر جواباً لكنه يتسلم تأكيداً من أبي نؤاس على تطابق رؤيتهما للعالم الخرب، وسيكون بعضاً من خراب العالم انصباب النحاس والتفاف الحجر على الشاعر القديم، فيما ليس له من كأسه الفارغة التي وضعت بيمينه سوى أوشال
 مطر.
بموجب هذه القصيدة القصيرة تتكثف الحكمة الشعرية بفحوى الإشاحة عن خراب العالم وقبحه وبقيمة الانصراف إلى جمال الشعر. الخمر هنا، في هذه القصيدة كناية عن الشعر والجمال، تلك هي حكمة زيارة أبي نؤاس، وهي كنية حسب الشيخ جعفر، لأبي نؤاس، كنية الحسن بن هانئ.