الغاطس في الاحتجاج

آراء 2019/11/25
...

د. سعد العبيدي
 
يسأل الـماشي، والشخص الجالس في مكان قريب والداني عن أسباب هذا الهياج الجماهيري للتظاهر ضد الدولة والعملية السياسية وعن القدرة الكامنة وراء استمراره للشهر الثاني على التوالي، ويجيب الكتَّابُ والمحللون وأصحاب الفكر والقريبون من الدولة والبعيدون عنها، بأنَّ ازدياد نسب الفقر، والإحساس بالعوز والشعور بالحيف من التمييز بين هذا وذاك وبين أبناء هذا المكون وذاك، وفقدان معنى العدالة في التعامل والإجراءات، ودرجة الإحباط العالية التي يعاني منها الغالبية في المجتمع غير المستقر أمنياً هي في الغالب الأسباب الظاهرة خلف هذا التوجه للتظاهر والاحتجاج، وهذا صحيح. لكنها أسبابٌ كانت موجودة منذ سنين، يعاني منها الكثيرون ويدرك وجودها الغالبية من السياسيين، ومع هذا لم يحدث احتجاجٌ لوجودها بهذه الشدة التي حدثت في تشرين الأول والثاني من هذا العام 2019.
 الأمر الذي يدفع الى التفتيش عن عوامل إضافية، الأهم منها هو هذا الإحساس الغامر لعموم المجتمع العراقي بفقدانهم احترام الذات وتقدير الدولة، وهذا الفقدان قد شكل حافزاً للتظاهر أو بالمعني النفسي دافعاً لاستعادة مقادير الاحترام المفقودة التي تشكلت خلال الستة عشر عاماً الماضية من تراكم الصور العقليَّة المشوهة عن الخطأ الموجود في الشارع وفي دوائر الدولة، إذ وعندما يتم المرور على سبيل المثال من على رصيف للشارع، يدركه الشخص المار أنه رصيف مليء بالحفر، لا يصلح للمشي، وعند النظر الى المدارس والكليات والتدقيق في المنتج يدرك الناظر أنه إسهامٌ في تخريب العملية التعليمية، ولما يقف شخص على حافة نهر ويراها مكباً للنفايات، ويرى مجاري الشارع أمام بيته قد طفحت مياهها الآسنة واختلطت بمياه الأمطار مكونة وحلاً بشكل خاص، ويرى صاحب المحل التجاري كيف تجاوز على الرصيف أمام محله وسد الطريق الوحيد. ويرى شارع الرشيد قد تعطل لستة عشر عاماً من دون سبب مقنع، وعندما يكون لميكانيكي السيارات محلٌ بين بيوت المحلة، وللنجارة معملٌ وسط المحلة، ومخازن الخشب والمواد الصحية منتشرة في محيط المحلة، وعندما تتكدس النفايات في قطع الأراضي الفارغة وتسوء الخدمات الصحية وتتلكأ الدوائر الحكومية، وتنشط العشيرة على حساب سلطة الدولة، أعمال نقوم بها نحن، تشعرنا ومن غير أنْ ندري ببشاعة فعلنا 
نحن... 
إحساس يقللُ بالتدريج من احترامنا لذواتنا وتقديرنا للدولة التي نعيش في كنفها، ويبدو أنَّ هذا الاحترام عندما تقل مستوياته وتقترب من الدرجة الدنيا يصبح تحسسه مؤلماً يصعب تحمله نفسياً، الأمر الذي يدفع بالناس الذين يعانونه بالمطالبة بتعديله، والتعديل يأتي عادة من إصلاح الحال وتلك الصور العقلية المشوهة عن الواقع، ولأنَّ آلية التعديل صعبة، واستجابة الدولة غير كافية، تحولت الرغبات الى مطالبات وكأنها تريد إعادة مستويات الاحترام للذات والدولة الى المستويات المقبولة، وهذا أمرٌ بالغُ التعقيد لن يتم إلا من خلال عمليات الإصلاح الحقيقيَّة.