صناعة الموقف الوطني ليس شعاراً للاستهلاك، أو لترويج أفكار عموميَّة عن الوطن والمجتمع والسلطة، بل هو فعل نقدي يتقصى تأصيل الوعي، وتوسيع مديات أسئلته، وفتح آفاق جديدة تستشرف صياغةَ عقدٍ وطني يستجيب لحاجات الناس في المعيش والحقوق والعدل
والمصالح..
التعالق بين الموقف الوطني ومصالح الناس يتطلب وجود رؤية واضحة، مثلما يتطلب وجود الإطار الصياني الذي يعزز الموقف، ويحمي المصالح، وبخلاف ذلك سيفقد هذا التعالق جدواه وأهميته، وسيدفع البعض للتغوّل، ولتجاوز الحق الوطني، والى الإضرار بالمصالح..
الحق بالتظاهر ممارسة كفلها الدستور، والتعبير عنها يعني وجود الوعي بهذا الحق، وبضرورة تحويل الحق الى ممارسة يوميَّة، والى فعل ثقافي يؤكد مسؤولية المواطنة، وشرعية تأصيلها السياسي والحقوقي والأخلاقي، وإذا كانت تظاهرات تشرين هي التعبير الوطني عن الحق الدستوري، فإنَّ الحفاظ على سلميتها، وعلى شرعيتها يتطلب الوعي بأهميتها في صناعة مشروع الموقف الوطني، وفي قطع الطريق على الممارسات المنفلتة والتي ستنعكس سلباً على الحق التظاهري، والى تحويل بيئة التظاهر الى بيئة للعنف والصراع.
من أكثر تجليات تظاهرات تشرين هو الوضوح والشرعية، وإنَّ ذهاب البعض الى "حرب الشوارع الخلفية" سيكون سبباً في تشويه هذه التجليات، وفي هدر المزيد من الدم، وفي تغليب لغة العنف، وأحسب أنَر مظاهر حرق المؤسسات، أو غلقها، أو تعطيل الدوام الرسمي في المدارس الابتدائية والمتوسطة، وحتى الاحتكاك العنيف مع القوات الأمنية سيكون سبباً في صدامات يذهب ضحيتها المزيد من شبابنا، فضلاً عما ينبغي التصريح به علناً برفض الإفراط بالعنف من قبل الجهات الحكومية، أو القيام بخطف الناشطين وتهديد حياتهم، وهو تجاوزٌ على الحق الدستوري للتظاهر، ولحق التعبير عن الرأي والموقف..
الحرائق وما بعدها
الصور التي تنقلها الفضائيات المحلية والعربية والدولية عن حرائق المؤسسات والمحال والشوارع تُدمي القلوب، وتجرح الكبرياء الوطني، لا سيما في شارع الرشيد الذي نعدّه رمزاً للمكان الوطني، وبقطع النظر عن الجهات التي تقوم بهذا العمل البشع، أو التُهم التي تُكال هنا أو هناك، فإنّ رفض هذه الممارسات وتشخيصها ينبغي ألا ينفصل عن فعل التظاهر، ولا عن المجاهرة بالموقف الوطني، لأنّ مفهوم الوطنية هو مفهوم "صياني" وأخلاقي، والحرص على مسؤوليته يدخل في سياق فعل التغيير الذي نريده لهذه التظاهرات التي تّعبّر عن رغبات الناس بهذا التغيير، وبالكشف عن أسباب الخراب والفساد والفشل الذي اكتنف العملية السياسية منذ ستة عشر عاماً، والعمل على تأهيل الفعل السياسي ليكون قريناً لبناء مشروع "الدولة الوطنية" على مستوى توصيفها المهني، أو على مستوى حمايتها بالقوانين والمشاريع الستراتيجية، أو على مستوى تأهيل نظامها الديمقراطي في سياقه الانتخابي والحقوقي وفي التداول السلمي للسلطة، وكذلك في سياق البناء المؤسساتي المهني والعقلاني بعيداً عن المحاصصة والعشوائية والمركزيات الطائفية والحزبوية والممارسات
الشعبوية.
حرائق الشارع ستتحول الى حرائق سياسية واقتصادية، وربما ستتحول الى حرائق ثقافية، تستدعي الى الذاكرة صور المدن التاريخية المحترقة، والمكتبات المحترقة، والتاريخ والأثر اللذين يتعرضان للحرق العلني، فضلاً عما تتعرض له مصالح الناس، والتي ستكون الأكثر تعرضاً للضرر، ولإشاعة صورة غير مقبولة عن الواقع العراقي الجديد، فضلاً عن أنها ستكون مصدراً بصرياً ومعلوماتياً للإشاعات وللأخبار المفبركة، وللسيناريوهات والسياسات التي تقف وراءها جهات غامضة أو معلومة، لا تدخل في سياق ما هو شائع عن" نظرية المؤامرة" بل في سياق الوقائع والمعطيات التي نرى للأسف صورها الشوهاء وهي تنقل مظاهر العنف والحرق في بعض شوارعنا، وعلى عكس ما نراه في ساحة التحرير ونفقها، حيث نبتهج ونحن نرى شبابنا يلوّنها بالبهجة والجماليات
الساحرة.
الموقف الوطني
من أكثر استحقاقات تظاهرات تشرين هي التعبير عن مسؤوليات الموقف الوطني، وعن الحالة الوطنية، عبر استعادة زخمها، وفعلها، وعبر مشاركة الشباب فيها، وهم يدركون أهمية صياغة هذا الموقف، وتبنيه، والدفاع عنه، ومواجهة عجز العملية السياسية في مواجهة مظاهر الفساد، وفضح الفاسدين، وفي بناء "دولة عراقية" يفتخر بها أبناؤها، دولة حقوقية، مدنية، تؤمن بمشروعية المواطنة والشراكة
والتنوع.
إنّ الشراكة في المسؤوليات هي جوهر تشييد الموقف الوطني، إذ تملك القوى الشبابية إرادة فاعلة لفكرة التغيير، والمواجهة، وللبحث عن منصات تعبيريَّة جديدة عن هذا الموقف، ومنها التظاهر والاحتجاج والرفض، والذي يعني تعرية لواقع سياسي مأزوم، ولتاريخ طويل من الخلل في إدارة العملية السياسية، وغياب الستراتيجيات التي تخصّ مشروع الدولة والمؤسسات
والتنمية.
فعل التظاهر الشعبي وبهذا الرخم يمثل أعلى درجات اللحظة الوطنية، إذ كشفت المشاركة الشبابيَّة الواسعة عن جيلٍ جديدٍ له أفقه وإراداته، ووعيه، وهو ما يتطلب وجود البرامج الحكومية الساندة لهم، والأطر القانونية، والفضاءات الاجتماعية والثقافية التي تحميهم، بما فيها حماية العمل والإشباع، فظاهرة البطالة وغياب الدعم الحكومي كان من أبرز الأسباب التي دعت للتظاهر، كما أنّ ضعف إدارة المسؤولية الدولتية، وسوء التعاطي المهني مع قيم الديمقراطية والحرية والحقوق المدنية أسهم الى حدّ كبير في تشويه المسار السياسي، وفي إبراز ممارسات تقودها جماعات الفساد السياسي والمالي والإداري، وهو ما أضعف بنية الدولة، وتسبب في تعويق مجالات التنمية وهدر المال العام، وبالتالي إنتاج شكل غرائبي للدولة الفاشلة، الدولة العاجزة عن إشباع مواطنيها وحمايتهم، وفي ضعف إدارتها لملفات السياسات الأمنية والاقتصادية
والدبلوماسية..