{سوف} وأخواتها!

آراء 2019/11/26
...

نصير فليح

كلمة "سوف" أصبحت كلمة ميتة في ما يتعلق بالاصلاحات التي طال انتظارها من الناس. ولم تمت هذه الكلمة – وأخواتها - في الشعور العام فجأة، بل كان موتها على درجات. ففقدان الثقة بالوعود وصل الى اقصى ما يمكن، حتى ان صيغة المستقبل في أي وعود باصلاحات مستقبلية لم تعد تعني شيئا تقريبا. وهذا كما يبدو ما يزال غائبا اجمالاً عن الطبقة السياسية في البلاد بدرجة او أخرى، وهو ما يتجسّد في الكثير من الخطابات الموجهة الى الشعب او الناس. 

ولا يمكن فهم هذا الغياب إلّا بالانفصال الذي تعيشه الطبقة السياسية عن حاجات ومشاعر ومتطلبات الجماهير الملحة. ففعل شيء ما، أو تحقيق اصلاح ما، ثم الاعلان عنه بعد ذلك، صار الصيغة الوحيدة التي يمكنها التأثير في الشعور والوعي العام. 
ولكن كيف وصل فقدان الثقة الى هذه الدرجة الخطيرة؟ نظرة الى الماضي توضح المحطات التي مر بها هذا الفقدان. فالاحتجاجات السابقة التي لم تثمر عن شيء، والوعود المتكررة لحكومات مختلفة متعاقبة - لا حكومة واحدة فقط – التي انتهت الى لا شيء، والاعلانات الغامضة عن محاربة الفساد دونما شفافية (لا اسماء محددة، لا علنية في التفاصيل والتحقيقات المزعومة..الخ)، كل هذا وعموم الناس يعيشون شظف العيش ويواجهون مظاهر الفساد المختلفة في حياتهم اليومية، يرونها او يسمعون عنها.
كل هذا التراكم على امتداد الأعوام الماضية كان لا بدّ ان يفضي الى حالة من فقدان الثقة العام. والآن، كيف السبيل الى استعادة شيء من هذه الثقة التي تمّ تدميرها منهجياً على امتداد تجربة أعوام طويلة؟ إذ لم تفعّل كل التشكيلات الاضافية عن محاربة الفساد من هيئات ومفتشين وما شابه، شيئا ملموسا مقنعا في تعاقب الاعوام والحكومات؟
للشفافية والعلنية في محاربة الفساد اهمية استثنائية هنا ولأكثر من سبب. فهي تعيد بناء شيء من الثقة بالاجراءات المختلفة لمحاربة هذه البلوى، كما ان اثرها الاجتماعي والاخلاقي بعيد ومؤثر جدا في مجتمعنا. فالعلنية هنا تؤدي الى وعي عام وشعور عام بالنفور والخجل من موضوع الفساد، بعد ان اصبح ممارسة اخلاقية وادارية "طبيعية" نتيجة عقود من التراكم النفسي والاجتماعي لهذه الآفة. وهذا الشعور العام له اهمية خاصة في مجتمع جمعي له وعي جمعي مثل مجتمعنا العراقي. فالشعور بالعار امام الملأ أمر مؤثر جدا في مجتمعنا، وسيمسي حاجزا مهما في ردع الكثيرين من الانخراط في هذا المسار خشية الصورة السيئة لأنفسهم وذويهم واقاربهم أمام مرأى ومسمع المجتمع. 
كما أنه سيلعب دورا مهما ايضا في إعادة بناء الانسان. فكلنا نعرف ان الانسان تم تدميره عبر مسيرة طويلة من الحروب والحصارات وممارسات الفساد وكل ما حدث في العقود الماضية الى يومنا. واعادة بناء هذا الانسان تتطلب أول ما تتطلب زرع قيم جديدة في الوعي العام، وليس مثل علنية مكافحة الفساد في تأثيرها على وعي مجتمع كامل واخلاقية اجيال جديدة تنشأ فيه.
لا تشكيل لجان جديدة، ولا هيئات او مجالس او مؤسسات جديدة، يمكن ان تقدم شيئا مهما على هذا الطريق في واقعنا الذي نعيشه اليوم. بل ان كلمة "لجنة" واشباهها اصبحت عقيمة هي ايضا في الوعي العام، على غرار "سوف وأخواتها". واجراءات ملموسة، على مرأى ومسمع الجميع، حتى لو كانت جزئية، تستطيع فعل ما لا تفعله الآلاف من الكلمات التي بليت بحكم الاستخدام العقيم المتكرر. فصيغة المستقبل هذه، وللمفارقة، امست تنتمي الى الماضي! أمست تنتمي الى خطاب لا يغني ولا يسمن ولا يؤثر. ولم يعد مقنعا للمطالب المشروع للقطاعات الأوسع من الناس، سوى الإعلان عن خطوات واجراءات بعد القيام بها فعلا، وشفافية وعلنية تتحول الى مشهد ملموس يراه ويشعر به الناس ويجدون فيه استجابة مقنعة لما انتظروه طويلا.