ضحك.. أو بكاء

الصفحة الاخيرة 2018/11/23
...

حسن العاني 
 
مع انَّ الحكاية تبدو وكأنها ابنة البارحة، ولكنها في الحقيقة تعود الى العام الدراسي 1965 - 1966، كنا ثلاثين طالباً لم يتسع لهم المكان في بناية القسم الداخليَّة المركزيَّة، ولهذا استأجرت الدولة لنا (مشتملاً) صغيراً، يضم غرفتين وصالة ومطبخاً وحماماً، أقيمت جميعها على مساحة 84 متراً مربعاً.. وكان علينا أنْ نتوزع الى ثلاث مجاميع متساوية، كل مجموعة تتكون من عشرة طلاب، وهو أمر صعب، فقد كان وصول الواحد منا الى فراشه يقتضي أنْ يقفز فوق أفرشة زملائه!!
أمر طبيعي ألا يوفر لنا ضيق المكان أية فرصة للمذاكرة أو النوم المريح، غير أنه لم يكن المشكلة الوحيدة، وأعتقد أنَّ المصادفة، هي التي ساعدتنا على احتمال ما لا يمكن احتماله، فقد كنا جميعاً ننحدر من القرى، وسكان هذه المناطق كما هو معروف أقدر من سكان المدن على مواجهة المتاعب واحتمالها، وإلا كيف يمكن العيش لثلاثين طالباً في مثل ذلك السجن الذي لا تتوفر فيه مدفأة ولا مروحة سقفيَّة أو منضديَّة،... والطريف اننا لا نمتلك سوى طباخ نفطي عتيق، تبرع به أحد المانحين لوجه الله، وفوق هذا وذاك فالبناية قديمة وآيلة للسقوط وسياجها واطئ تحول مع الأيام الى مكب للنفايات.. حتى العلم المرفوع على السطح، تآكل قماشه وتمزقت حواشيه وبهت لونه ولم يستحم منذ 
سنوات!!
طفح الكيل ولم نعد قادرين على السكوت، ولهذا قدمنا طلباً الى مدير الأقسام الداخليَّة نرجو فيه مقابلته لشرح ظروفنا، ووافق الرجل على الطلب، ولكنه اشترط إرسال طالب واحد يمثلنا، ويكون (نائباً) عنا، وهو شرط مقبول، والحقيقة فقد أسعدنا ذلك كثيراً، وعلى الفور عقدنا اجتماعاً عاجلاً وبدأنا ندون احتياجاتنا، ابتداءً من الترميم وبناء غرفتين، مروراً بتوفير ثلاثة طباخات وثلاث مدافئ وثلاث مراوح، زيادة على توفير سجاد للأرض وستائر للشبابيك، وانتهاءً بزيادة مخصصاتنا المخجلة.. وهكذا هيأنا على ما أذكر قائمة طلبات من (19) فقرة.. ثم اخترنا بالإجماع زميلنا سليم عبد الجبار (أغلب الظن هذا هو اسمه) لكي يمثلنا أمام المدير، لكونه أكبر أفراد المجموعة عمراً، والأهم من ذلك، إنه شخصية بارعة في الحوار والتحايل وخداع الآخر بلباقته، ونحن بمسيس الحاجة الى نائب يمثلنا ويتحلى بمثل هذه القدرات التي يمكن أن تحقق نجاحاً كبيراً في المهمة!
ذهب زميلنا في الموعد المحدد، وجرت المقابلة، وابتداءً قدّم المدير ساعة يدوية لزميلنا، وقال له (ما دمت تمثل اخوانك الطلاب، فهذه هديتك التي تعدُّ هدية للآخرين) ثم تحدث حديثاً طويلاً أعرب فيه عن حزنه لمعاناتنا، ولكن التخصيصات شحيحة، وأوضاع الحكومة الماليَّة لا تسمح بتلبية الطلبات جميعاً، وعليه ما هي أولوية 
احتياجاتكم الملحة؟
وفي الحال أخبره زميلنا (ما ينشده الطلاب قبل غيره هو توفير علم جديد، لأنهم يشعرون بالحياء مما آلت إليه حالة العلم القديم!) ومع إنَّ الدهشة عقدت لسان المدير، إلا أنه قام على الفور بتنفيذ طلبه، وعاد زميلنا مع العلم مرفوع الرأس، فيما كانت رؤوسنا منكسة من الضحك.. أو البكاء!!