محمد غازي الاخرس
.. ويقول يوسف الشربيني، المصري الساخر، واصفاً الريف: لا تسكن الأرياف إنْ رمت العلا.. إنَّ المذلة في القرى ميراث.. تسبيحهم هات العلف حط الكلف.. علق لثورك جاءك المحراث. والشربيني هذا هو يوسف بن محمد بن عبد الجواد بن الخضر الشربيني، من أدباء القرن السابع عشر الميلادي وعرف عنه تأليفه كتاب “هز القحوف بشرح قصيدة أبي شادوف” وهي قصيدة خصصها لنقد الريفيين وعاداتهم والاستهزاء بذوقهم وألقابهم وطريقة عيشهم. ثم إنه وضع للقصيدة شرحاً مغرقاً بالتهكم المؤذي الذي يعكس ثقافة استعلائيَّة تحتقر الريف وتجعله رديفاً للتخلف والجهل والسطحيَّة. هذا الكتاب طبع سنة ١٢٧٤ هجريَّة وأعيدت طباعته في العام ١٩٦٣ ميلاديَّة، وراج على أنه كتابٌ ساخرٌ ناقدٌ في حين أنه كان ينطلق من نسق ازدرائي للريف. أما الشربيني نفسه فيقول شوقي ضيف إنه قد يكون “عالماً واعظاً، وقد نظر من حوله فرأى السواد الذي كان يغطي أودية مصر في العصر العثماني ورأى معه تعاسة أهل الريف فنظم قصيدة سماها قصيدة أبي شادوف يصوّر فيها الشقاء المحيط بهم”. و”الشادوف” آلة زراعية تستخدم للسقاية كان المصريون يتهكمون من الشخص فيطلقونها عليه نعتاً، ولعلَّ يوسف الشربيني أراد هذا من باب الكناية. أي أنَّ أبا شادوف إنما هو كناية عن الريفيين قاطبةً. المهم إنَّ الحكاية الإطاريَّة لكتاب “هز القحوف” تفيد بأنَّ الشربيني عثر على القصيدة المكتوبة بلهجة عاميَّة قح فوجدها “قصيداً يا له من قصيد، كأنه عملٌ من حديد، أو رصٌ من قحوف الجريد”. ثم أنه قسّم الكتاب إلى جزأين؛ واحدٌ لشرح أحوال أهل الريف والآخر لشرح غوامض قصيدة أبي شادوف. يقول في وصف الريفيين إنَّ “ليس لهم انضباط وأحوالهم شياط وعياط، ووردهم عند الأسحار، التفكر في الغنم والأبقار، وتسبيحهم في الظلام، هات النبوت والحزام، وحط العلف وهات الكلف”. ثم يمضي ليسخر من أسمائهم وكناهم وألقابهم، ويمرُّ بعاداتهم وثقافتهم وأعراسهم، وهو في كل هذا يذمهم ذماً شنيعاً هو أقرب إلى الهجاء الكاره المؤذي.
اسمعوا له ماذا يقول عن العروسة الريفيَّة: يا عروسة يا أم غالي.. انجلي ولا تبالي.. انجلي يا وجه بومه.. زاعقة وسط الليالي.. وجهك بالنقش يشبه، وجه ضبعة في الرمال. وإذ يترك الشربيني “جهال” الريف ويذهب إلى فقهائهم فإنه يمعن في تسخيف عقولهم ويخترع على ألسنتهم خطباً بالعاميَّة منها مثلاً: أعلموا يا أهل بلدنا أن عندكم قمح كتير وتبين وشعير وانتم في خير من رب العالمين فأنتم تفيقوا لزرع الوسيه وإلا صبحكم الكاشف بداهية وبلية..الخ.
نعم، يقولون إنَّ يوسف الشربيني شاعرٌ وكاتبٌ ساخرٌ، لكنني لم أر فيه سوى محتقرٍ كارهٍ للريفيين المساكين، ويا عجبي!