منير راضي العبودي
منذ زمن افتقدنا أو غادرنا موضوعة العرض المسرحي الفرجوي أو المسرح السردي الحكائي المتقطع الذي يلف بين طياته المتعة البصريَّة ويخلق مناخات التعايش البرختي الذي يجعلك من صلب الموضوع أو يداهمك غيلة ليجعلك جزءاً من منظومة العرض.
مسرحية “حدث في بلاد السعادة” التي عرضت على مسرح السلام في القاهرة منذ وهلتها الأولى تجعلك في بوتقة الإحساس والشعور بأنك من زمنٍ ماضٍ، وتارة أخرى تعيش ساعتك الآن وبعد حين تأخذك الى ما وراء أو ماذا سيأتي من تغيير أو انتفاض بلا زمن أو رقعة مكانيَّة لا حدود لها حتى تشعر أنك تحلق في فضاء مفتوح من الجغرافيات الكونيَّة وكأنك إنسان بلا قيود بلا زمن.
هذا الإحساس جاء من خلال الصدمة الأولى من روح العرض الذي بدأ من خلال المساحة الجغرافيَّة ما بين كراسي الجمهور لتصعد مرغماً مع الجوقة على خشبة المسرح وهنا الجوقة أراد بها المخرج أن تكون مفتاح العرض المسرحي، ومن هنا أراد المؤلف والمخرج معاً أنْ يسحباك من دون أنْ تشعر، لتكون بذلك الممثل الثالث للعرض الفرجوي الذي بني على الإيقاع الحركي والموسيقى والصورة الرقميَّة التي شكلت طيفاً ممزوجاً من الألوان الضوئيَّة الرائعة التي تشكل منها المنظور أي الديكور والسينكرافيا في آنٍ واحدٍ وهذه خطوة مهمَّة جداً وموفقة لمخرج العمل الذي بدا وكأنه شيخ في وسط حكاية عارف بكل مجرياتها من أحداث.
منذ الومضة الأولى لهذا العرض شعرت وكأني في باحة مسرحيَّة “الفيل يا ملك الزمان” للكاتب السوري الكبير سعد الله ونوس أو في أحداث مسرحيات توفيق الحكيم أو جزء من الموروث الشعبي للفنان العراقي المرحوم قاسم محمد أو ضمن طقوس مسرحيات الكاتب المغربي الكبير عبد الكريم برشيد.
لقد قدم لنا مؤلف العرض الرائع وليد يوسف، مسرحيَّة كانت أبوابها مشرعة لكل زمان ومكان مطلق حتى يتاح لديه فضاء واسع وشامل الرؤية في التشخيص والتنبيه والنقد والتعرض بحريَّة لمجريات أحداث مفتوحة تصلح فكرتها ومضمونها لكل العصور وهذه لغة طالما تكون صعبة على أفكار وتوقيتات ومجريات الأحداث التي تثير غبار كل زمن ولى وحاضر وقادم.
إن هذا النوع من فن الكتابة والتأليف هو الأصعب والأقسى في شموليَّة الطرح والاستقراء والتقديم والاستعراض الحكائي لبناء قيمة وصيغة الأحداث المفتوحة والغور في فك طلاسم الحلول الناجعة للعرض المسرحي هذا والذي وقف على أعتابه المخرج الباحث مازن الغرباوي ليعيد تنشيط روح الكلمة الى صورة وحركة دراميَّة تعامل معها بشفافيَّة واحترافيَّة، إذ قسَّم العرض الى ثلاثة مستويات من الأحداث المرئيَّة بعد تفكيك شفرات الكلمات ومن ثم أخذ ببنائها منطلقاً ببداية دراميَّة استعراضيَّة لسحب المشاهد من الوهلة الأولى وجعلك على أعتاب نهايتها، وهذه طريقة إخراجيَّة صعبة ولكنَّ لها تأثيراً كبيراً في صياغة المعايشة الوجدانيَّة للمشاركة لما سيقدمه العرض وكيفيَّة التعامل والمعايشة معاً لمجريات الأحداث.
هكذا أراد المخرج أنْ يسوِّق الجمهور معه لبيان الحجة ورصدها ودفعه للتفكير والمشاركة في بيان رأيه من دون أنْ ينطق، وهذا أسلوب المحترفين في عملية الإخرج المسرحي, كما أنه - أي المخرج - استطاع أنْ ينشط النغم الموسيقي الصوتي أي مجموعة الأغاني التي تكشف لنا بعض الأحيان عما يدور في ثنائيات المتن الحكائي كي تجتمع لدينا كمشاهدين معظم العناصر الدراميَّة من أجل توظيفها لدعامة بهاء وجمالية وتنوع العرض المسرحي وذلك من خلال الكلمات الغنائية التي كتبت بعناية محسوسة ومعبرة من حيث معادلة الصوت المؤدي لها الرائع والجميل لفاطمة محمد ووائل الفشني وبذلك إضافة المخرج دعامة قوية ومؤثرة لمسيرة الأحداث وتنوعها كما شاركت الاستعراضات التي امتازت بجمالية الحركة ومتعتها في الأداء الجسدي الاحترافي متعة أخرى من تجليات أحداث العرض التي استطاعت أنْ تكون همزة الوصل لربط الفعل الدرامي الذي تفنن فيه أغلب ممثلي العرض، إذ شاهدنا أطيافاً لونية مبهرة في فن التمثيل والإلقاء والتجسيد والذين امتازوا بخفة الحركة ورقي الأداء والسيطرة على تنوع الأسلوب التمثيلي من مشهد الى آخر، ما يدفعك بأنك أمام مهنية احترافية لمادة فن التمثيل.
ولا بدَّ من الإشارة الى جماليات الضوء والمؤثرات الصوتية واحترافية وصنعة الديكور اللذين كان لهما الأثر الكبير في تكامل المنظور المسرحي المحترف والممتع الذي أسس فضاءات جماليَّة للمشهد.
وقبل أنْ أغادر “بلاد السعادة” كتبت بعض الأسطر في دفتري الصغير تستحق هذه البلاد وأهلها المفترضون أنْ نقف لا لأجل التصفيق وإنما لخلق معاينة وتشخيص فني يستحقان الدراسة.