البطالة .. صناعة سياسية

آراء 2019/11/30
...

عبدالامير المجر 
 
في سبعينيات القرن الماضي، عرض تلفزيون بغداد، مسلسلاً سورياً، بطله الفنان دريد لحام .. المسلسل كان كوميدياً هادفاً، كعادة اعمال لحام، وفكرته تقوم على نقد البيروقراطية وسوء الادارة، اذ فجأة تهبط الثروة على (غوار الطوشة) الذي يجد نفسه صاحب مصنع، ويكون هو المدير، طبعا، وهنا عليه ان يوظف من يعرفهم من الاصدقاء، ولان الاصدقاء لهم اصدقاء، فان من يأتي منهم طالباً العمل من قبل الصديق، يقبل من دون تردد
 حتى يغص المكتب بالموظفين المعينين، فتجري توسعته لاستيعابهم، مع انه لاشغل لهم سوى التوقيع فقط على طلبات لايقرؤونها! وبالنتيجة يفلس المصنع ويضيع كل شيء.
في عراق مابعد 2003 توفرت فرصة للنهوض بالدولة من جديد، بعد سني الحروب والحصار، اذ تدفق النفط، وتوفرت السيولة المالية الكبيرة التي كانت كفيلة باعادة عجلة الصناعة الى الدوران، بالاضافة الى القطاعات الاخرى، لكن الذي حصل هو ان هذا القطاع بالذات ظلت مكائنه يأكلها الصدأ وموظفوه عاطلين، على الرغم من دوامهم اليومي وشبه اليومي، والسبب هو غياب الارادة الحقيقية لاعادة الصناعة، واعتماد المسؤولين الجدد مبدأ الصفقات مع دول الجوار وغيرها، في استيراد مختلف السلع والبضائع، التي من الممكن صناعتها محلياً، لتحقيق فوائد سريعة ومباشرة لهم ولاحزابهم .. مع تقادم السنين وتزايد اعداد الخريجين وغير الخريجين ممن باتوا مهيئين للعمل،  مقابل عدم قدرة الدوائر على استيعاب اعداد اكثر من الموظفين الذين اختنقت بهم، وباتوا فائضين عن حاجتها اصلاً، بدأت المشكلة تظهر على السطح، وصارت صور المتظاهرين، تملأ الشاشات يوميا تقريبا، تطالب بالتعيين، ولكن من دون جدوى. والسؤال هو اين هي المعامل الحكومية والاهلية التي تستوعب هؤلاء؟  .. لايريد ان يعرف المعنيون، ان الاقتصاد دورة متكاملة، فما يدخل البلاد من عوائد النفط ويسلم الى الموظفين كرواتب، يخرج  منها ايضاً من خلال السلع والبضائع المستوردة التي تعود لبلدانها عملة صعبة تحوّل من السوق العراقية، بدلا من ان تبقى هذه العملة تدور من خلال القطاع الصناعي الحكومي والخاص، بالاضافة الى ما يستوعبه هذا القطاع من أيد عاملة، تخفف عن الدولة ضغط الرواتب والترهل الوظيفي المفتعل .. استمر الامر على ما هو عليه ولم تحصل محاولة حقيقية واحدة للنهوض بقطاع الصناعة، كما القطاعات الحيوية الاخرى، لتبدأ قيمة العملة بالهبوط، امام متطلبات الحياة اليومية للمواطنين، فاجرة النقل في السيارة، مثلا،  تضاعفت عما هي عليه نحو عشر مرات، قياساً بما كان عليه قبل 2003 وكذلك اجرة قنينة الغاز، وهذه مصروفات يومية، لابد منها لأي فرد وعائلة،  وبات مبلغ ال 700 الف و800 الف  دينار، كراتب، لايكفي عائلة صغيرة، ناهيك عن كونها في بيت مستأجر في الغالب،  تضاف اليه متطلبات الكهرباء والهواتف والانترنت وغيرها من ضرورات الحياة اليومية، وقد ترتب على هذا الامر، ركود في حركة السوق، والبيع والشراء، فتضررت قطاعات غير قليلة اخرى، تعيش على هذه التفاصيل  التي تنتجها الدورة الاقتصادية الطبيعية، فزادت اعداد العاطلين، من الخريجين وغيرهم، وبات الامل مفقودا في تغيّر الحال، حيث خلافات الساسة ومعاركهم على الامتيازات والمناصب، تحتل المساحة الاكبر من نشرات الاخبار يوميا .. في المقابل يرى المواطن من خلال شاشات التلفاز ووسائل الاتصال الاخرى كالانترنت والموبايل، ان العالم من حولنا، يتغير بسرعة والحياة ممتلئة في دول فقيرة على مستوى الموارد قياسا للعراق ، لكنها مكتفية بسبب حسن التدبير، وحضور الحس الوطني في ادارة البلاد وليس المصالح الشخصية
 والحزبية.
الشيء الغريب حقا، هو انه بعد الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها البلاد، والتي يجب ان تستحضر في الذهن كل هذه الاجراءات الخاطئة، نجد ان الحلول جاءت مغايرة تماما لما ينبغي ان نتخلص منه، الا وهو التعيين في دوائر ومؤسسات الدولة، واحالة اكبر عدد من الموظفين للتقاعد بطريقة غير مفهومة، لاستيعاب اخرين بدلا عنهم مع ان هذا الحل الترقيعي سيفاقم المشكلة ولايحلها.
نحتاج حلولا حقيقية، لازمة ضربت جذورها عميقا، في واقعنا السياسي الرخو.