ملاحظات عمّا يروى

ثقافة 2019/12/01
...

ياسين طه حافظ 
 
 
أعتذر سلفاً، وأقول: لا أريد الخوض في مسائل فقهية أو في أي مسألة تحتاج الى رأي المتخصص ومنهم رجل الدين في شؤون دينه. لكني وأنا في موضوع الحرص، وتأمل ما جاء من أحاديث بأكثر من صيغة وبتفسير من هذا غير ما ورد من ذاك، وتأكيد دلالة خلاف دلالة سبقت، أشعر بحاجة الى من يقول بالأفضل أو بالصواب. تبدو أهمية ذلك حين تتأسس على القول قناعات أو ممارسات أو تكون له علاقة بجوهر مسألة فكرية أو تاريخية.
وحين راجعت كتابات في هذا الشأن قرأت ما يستوجب النقاش وأخذ الرأي أو الاستعانة برأي آخر. فبالنسبة للأحاديث النبوية، ويمكن تطبيق هذا المبدأ على غيرها، ورَدَ في جواز "نقل" الحديث فيما يسمى طريقة "التحمل و الأداء"  ومقالها: لو تحمل الراوي الحديث صبياً وأدّاه بالغاً، قُبِلَ منه..." هذا كلام خطير، فإدراك الصبي غير إدراك البالغ أو الناضج أو من اتسع وعيه وعلمه. وما يؤديه رجلاً مكتملاً لن يكون أبداً، هو ذاك الذي تحمله صبياً .. أذكر وأنا ولد في المتوسطة، كنت أرتاد المكتبة العامة وأطلب من أمينها دواوين الشعراء. يوماً طلبت ديوان المتنبي. أمين المكتبة كان مهذباً يشجع اهتمامي ويفرحه. كنت أقضي ساعة، ساعتين اقرأ المتنبي. فهل كنت أفهم المتنبي؟ واستوعبه كما أنا اليوم أو كما هو حقاً؟ وهل إذا رويت عنه أو له اليوم لا أخطئ ولا أضع مفردة مكان أُخرى و أكون دائماً دقيقاً؟ 
أبداً. ثمة فارق وخلاف ولن يكون ما أؤديه مدركاً متعلماً، ثم عالماً، هو ذاك الذي تحملته صبياً. احتمال هذا الخطأ أو التحريف أو السهو، يتسع كلما اتسعت المسافة بين التحمّل والأداء. فكيف يحل قبول المؤدَّى بعد سنين طويلة من سماعه أو قراءته؟. 
المسألة الثانية، ولا نريد الا خيراً، قبول " أن يضع "الشيخ" كتاباً "مصححاً" بيد تلميذه للإفادة منه. وهذا التلميذ سيروي منه .. 
إذاً هم يقبلون الحديث أو الحكم بالرواية الثانية احتراماً لما وضعه الشيخ ووثق به. لكننا في المرحلة الثانية ابتعدنا عن الشيخ واضع الكتاب إلى ثان. وهذا غير ذاك مهما كان الإيمان وكانت الأمانة ثم هناك ما يستوجب التساؤل، وهو: من قال ان الكتاب مصحح تماماً وبلا سهو ولا خطأ ولا انشغال بمسألة أخرى حرفت السياق الى سواه؟ وإذا سلمنا بأن الكتاب راسخ مصون وأن تلميذه كان نَبها مؤتَمنا، يبقى السؤال: هل سلمت ذاكرة هذا التلميذ وقد ابتعد عن الدرس والتلمذة الى عمر الرواية والحديث؟ وما هو الموقف إن وردت مسألة منه بصيغة أخرى في مرجع آخر ونقلاً عن شيخ معتبر أيضاً؟ ليس كافياً الاحتراز من الروايات المتعارضة، فالشك يبقى بما نختار منها .. وهو يعني أننا نحتاج الى بحث وتمحيص لتأكيد الصواب.
ليس فيما ذكرناه تخويناً أو تجريحاً لصواب أو سلامة. إنما هي المقدرة البشرية على الاستيعاب والنقل والأداء وما يقع خلال ذلك وفي أثنائه. علماً بأن "الضبط" شرط أساس للقبول – كما ورد في "منتقى الجمان للعاملي.." 
حين كنت أدير مجلة كانت تصلني جهود أساتذة متخصصين، أنا تلميذهم الأقل علماً، فأجد في تحريرها أغلاطاً وسهواً، لا تقصيراً ولا جهلاً منهم ولكن هكذا نحن بشر، نسهو وتخذلنا شدة الحرص أو اختراقات الخارج لانشغالنا.. وأي منا إذا راجع هو نفسه كتاباته، سيعثر على ما فاته إملاءً أو تنقيطاً أو سقوط لفظة أو حلول كلمة محل أخرى. جملة فقدت كلمتها الأخيرة، نسياناً أو تقصيراً في النسخ، فلم تكتمل تلك الجملة وهي تنتظر من بعد اجتهاداتنا والله أعلم بما كان في ذهن منشئها. إذاً افتراض أن الكتاب مصحح يبقى افتراضاً بدرجة ما، صغرت هذه الدرجة أم كبرت! 
إن ما يسمى "المناولة" ومنها مثالنا السالف، لا أراها مقبولة على إطلاقها وعلينا تقبلها بحذر. ثقافة اليوم في عمل الذاكرة وتركيبها وما يؤثر في سلامة نشاطها، تجعلنا لا نرتضي احكاماً كنا من قبل نرتضي بها.
أعتذر ثانيةً عن الخوض في غير ما أنا مؤهَّل له ولكنها تساؤلات أردت من ورائها ان أحظى بما يقنعنا ومعاودة الاهتمام بمدى سلامة النصوص وفهمها والأكثر بوثائقيتها التي تتأسس على فروض وأحكام. هو إرثنا العظيم ويوجب علينا المزيد من الحرص والتقدم باحترام كاف لمضامينه...
وما يمكن افتراضه: أن يكون الكتاب المذكور ليس للشيخ! كثيراً ما اختلط اسم الناسخ باسم المؤلف أو حل محله.. بل حدث ان حلّ اسم مالك المخطوط محل هذا أو محل ذاك وقد تسقط الورقة التي تشير الى مؤلفه وناسخه معاً.صحيح هذا نادر الحدوث في ما يخص الأحاديث النبوية، ولكنه وارد، كما أن تدخل، أو إدراك منفعة الحاكم أو صاحب الشأن، والفعل السياسي والاتجاهات الفكرية والمذهبية، حرفت الكثير من الدراسات والبحوث بل غيروا في بعضها وأضافوا لينحاز الكاتب أو الدارس وليرضي أو يدعي علماً وهذا زادنا إرباكاً في التحقيق كما زادنا تشكيكاً في سلامة ما جاء. المحدثون الذين عرفتهم مرحلة خصيبة تمتد من القرن السادس الى العاشر (لا تدوين)، ثم من الحادي عشر الى الثالث عشر (تدوين) جعلتنا أمام ثقافات مختلفة وأبانت مؤثرات سلبية وإيجابية مختلفة في الاختيارات وفي الضبط أو التحريف!