تسيرُ الكتابة العربية اليوم في اتجاهين رئيسين احدهما ينطلق من المُعطى بمعنى الإرث القديم ومسلّماته، وهذا الاتجاه يدعو إلى شيءٍ من (التحديث) وفق رؤية الكاتب لكنه يتطابق مع مسلّماته، والآخر ينطلق وفق إعادة النظر جذرياً وكلياً في هذا المُعطى بلا مسلّمات على العكس يقترح اطروحات جديدة ويبحث عن تكوينات أخرى وفق اتجاه يضع الكينونة والإبداع موضع التساؤل.
ومن هنا يبدأ الناقد الثقافي يرصد الاتجاهين فيرى في الأول أنه يفصح عن ذاتٍ مليئة بالوثوقية والطمأنينة، والثاني يرى فيه ذاتاً قلقة تزلزل جميع الوثوقيات والذي يخصنا الاتجاه الأول الذي تسير عليه الرواية الصوفية التي لا تراهن على فهم المتلقي فهماً حرفياً دقيقاً، وإنّما تقوم بتنبيه المُدرك الذوقي لتأسيس سلوك روحي تستثمر الموروث الصوفي ضمن وعي عميق الدلالة على المعرفة والجمال فالروائي ينطلق في كتابته وفق الموروث القديم لكن برؤية حداثوية فينتقي مادته من التاريخ العام؛ لحاجة وأدوات فنية تنسجم مع الخطاب السردي وتغوص في العمق الفلسفي الصوفي ليضع مادة في مخيلته وهذا المخيال يضمر في طيات الخطاب أنساقاً قد مررها عبر النص السردي ويعالج فيه قضية الهوية المقصية والقاتلة، فرواية قواعد العشق الاربعون لإليف شافاق حملت بعداً فكرياً يعبر عن الفلسفة الماورائية، فالعنوان بحد ذاته يشير إلى نسق فكري مستمد من الفلسفة الصوفية وتحديداً (الروح والمادة) والمتن الروائي يعبر عن ذهنية شرقية وغربية ويمكن أن نطلق عليه نسق (التوافق) بين الثقافات والحضارات الشرقية والغربية، وهذا النسق يعالج أزمة الهوية او حجر الاساس فيها ومدى التلاؤم بين متضادين هما (الشرق والغرب). اما رواية ثلاث خطوات إلى المشنقة للروائي السوري جان دوست فقد استمد مادتها من صراع الكرد والاتراك وثورة الشيخ سعيد النقشبندي ضد الدولة التركية حين اسسها مصطفى اتاتورك بدعم الغرب له، فبطل الرواية الشيخ سعيد أعلن ثورته من أجل الظفر بدولة كردية مستقلة محتجاً بالحق الذي تنص عليه الشريعة، فالثورة عنده واجب ديني وهي من مقاصد الشريعة ومن أجل الدين والناس، فحين شعر الاكراد أنّهم مهددون في عقيدتهم كون الانتماء الديني اختزل هويتهم كلها ممّا جعل لغتهم الأم ومجموعتهم الاثنية تتهدد فقاتلوا بعنف ضد اخوانهم في الدين الاتراك. الأكراد والاتراك كلاهما مسلم ولكنهما يختلفان في اللغة والقومية، فدار الصراع الدموي بينهما وهذا وما نسميه نسق العدمية في الرواية؛ لأنه جاء معبراً عن الرغبة في الموت من وجهة نظر الفلسفة الصوفية لكنّه في الاساس جاء لتلبية حاجة التغير، وهذا يشير إلى ديمومة صراع الهوية وتحديداً بين الكرد والترك، والحق أن جان دوست في المشهد الاخير من الرواية حين تم شنق الشيخ سعيد من قبل السلطة التركية لم يختم الرواية بموته بل جنح الى الخيال وتركه على قيد الحياة برفقة حبيبته التي احبها في شبابه بيرهان ممّا جعل القارئ يتوهم أن هذه الحياة في الجنة لكن الروائي لم يذكر الآخرة ولا الجنة بل ترك السرد مفتوحاً وهذا يشير أن القضية الكردية مازالت مستمرة وصراع الهوية قائما الى وقتنا الحاضر، وهذا النسق الهوياتي يحيلنا الى الرأي القائل إنّ (في المجتمعات حيث تكون القومية مقدمة وفق كل شيء باعتبارها ايديولوجيا غير متحيزة جامعة تقوم على مبادئ بيروقراطية للعدالة، قد تظهر العرقية والتنظيم العرقي كتهديد ضد التماسك القومي والعدالة والدولة). ولأن العراق منطقة متعددة الهويات فقد كان للروائية العراقية رغد السهيل في رواية منازل ح17 نظرة أخرى حين وظفت شخصية قمر الزمان القزوينية العالمة بأصول الفقه والمفتية في قزوين ثم العراق والتي أعلنت ثورتها على الفكر الأصولي والاخباري ونادت بتحديث التأويل في مقاصد الشريعة ودعت الى توحيد الأديان بحجة المخلص الذي يظهر في نهاية الزمان وهذا المخلص تتفق عليه جميع الديانات للخلاص من الصراع العرقي والقومي والاثني وهذا يحيلنا الى نسق التذويب بمعنى تذويب جميع الهويات المصغرة في حساء عديم الشكل فيه كلّ الألوان. الرواية الصوفية بصورة عامة في ثيمتها الأصلية تحملُ فكراً يعبر عن المخزونات الماورائية وهذه يمكن أن نعدّها انساقاً هوياتية ترصد الصراع والإقصاء فالروائي في هذه النوعيات من الروايات يعالج قضايا الهوية ولا سيما جان دوست في رواياته.