السياسة العراقية والخيارات المفتوحة..

آراء 2019/12/02
...

علي حسن الفواز
إذا جاز لنا تسمية التظاهرات الشعبية، بالحراك والاحتجاج، أو الانتفاضة، او رفض السائد السياسي، فإنّ ذلك يستدعي وعيا نظريا واجرائيا بهذه التسميات، وبطبيعة السياق الذي تتحرك فيه، فما يجري في الشارع العراقي هو تعبير عن رفض علني لواقع الحال، ولتاريخ طويل من الفشل السياسي، وعطالة ارادة المنظومة السياسية، وحتى تعبير عن عدم القبول بالأنموذج المشوّه للخطاب الذي تديره جماعات سياسية، واحزاب اسلامية تحولت الى احزاب سلطة..
البحث عن الهوية، أو الذات، قد يكون سببا من اسباب كثيرة لتفسير حراك الشباب، والذين وجدوا انفسهم بعد ستة عشر عاما أمام بنية سياسية متضخّمة، لكنّها عاجزة، وغير قادرة على تأمين مجال عمومي لتداول الحريات والحقوق، ولفرص العمل، والتعاطي العقلاني مع قيم الدولة والحقوق والحريات والمعيش، وهي قضايا تتطلب وعيا نظريا بمسؤوليات الدولة الحديثة في توصيفها وفي انظمتها، مثلما تتطلب اجراءات واقعية ترتبط بالتخطيط والتنظيم وببرامج الاشباع والرفاهية والحماية وتأمين فرص حقيقية للأمن السياسي والاقتصادي والصحي والثقافي..
يمكن للاسباب أن تترى، وأن ترتبط بطبيعة التحديات التي تعاني منها العملية السياسية، لكن فشل النخبة السياسية وتدويرها خلال تلك السنوات، يمكن أن يكون سببا مهما في دفع حراك الشباب الى الواجهة، والى التمرّد، والى الدعوة لواقعٍ سياسي جديد أكثر فاعلية وصدقية، وأكثر تعبيرا عن حاجاتهم ومصالحهم، والى العمل على تغيير مايجري، فالاصلاح بمعناه البرغماتي قد يبدو محدودا، لأنه سيتغافل عن الكثير من مظاهر الخراب، والمسؤولين عنه، وهذا ما يعني ضرورة مواجهة الواقع بمسؤولية، والاعتراف بالفشل، والبحث عن آليات جديدة وفاعلة لادارة العملية السياسية، ولتحفيز الاقتصاد العراقي الذي يعاني من عجز وخراب مريع..
 
الاحتجاج بوصفه تفكيرا 
بصوتٍ عال
تواصل الاحتجاجات، ومنذ اكثر من شهر يدفع لاثارة الاسئلة حول طبيعة هذه الاحتجاجات، والتعرّف على شعاراتها، ولماذا هي منتشرة في مدن معينة دون 
غيرها؟ 
هذه الاسئلة تتطلب مراجعة واسعة، ومكاشفة صريحة، وعن الجهات التي ادارت مسؤوليات العمل السياسي، وطبيعة مخرجات هذا العمل، وماتحقق فعلا في الواقع، وعلاقة هذا بمفاهيم الدولة والحرية والديمقراطية والتنمية والحداثة، والتي صارت شروطا لازمة لأية عملية سياسية في العالم، فالعمل السياسي في مؤسسات الدولة لا يعني البحث عن الثراء الفاحش والسريع كما يجري عندنا، ولا للإفساد العلني كما يمارسه البعض دون رقابة أو رقيب، بل يعني عملا مخلصا ومسؤولية اخلاقية ووطنية..
الاحتجاج في هذا السياق، والتظاهر تحول الى سمة للرفض الشعبي، وصار نوعا من التفكير بصوت عال ضد هذه الممارسات النكراء، وضد هذا النمط السياسي الذي فرض "عقليته البليدة" على ادارة المشهد، وفي عمل المؤسسات، وفي ادارة المشاريع التي للاسف آلت اغلبها الى الفشل وسوء التنفيذ، وربما كانت اساسا مشاريع وهمية..
التفكير بصوتٍ عال هو تعرية للواقع الخشن، ولاوهامه المتراكمة، والدفع باتجاه مواجهة واضحة وعلنية، ومن أجيال لم تغوها الايديولوجيات، والتاريخ، بل إنّهم كانوا هم ضحايا السياسات والمحاصصات وتوزيع المغانم الطائفية والحزبية، وربما كانت وقائع السياسية الفاشلة هي المنطقة الرخوة التي سمحت بخرق الواقع السياسي، وتهيئة الفرص للتدخل الخارجي بالشؤون الداخلية للعراق وتعطيل ارادته وبناء مشروعه الدولتي الصحيح، مثلما أنها كانت مسؤولة الى حدٍ كبير عن انتاج مظاهر العنف الطائفي والصراع الاهلي، وحتى دخول الدواعش واحتلالهم لمدن عراقية 
كبيرة..
التفكير بالاحتجاج هو تفكير بالسياسة اولا، وبامكانية تغيير هذه السياسة ثانيا، والبحث عن أفق جديد يمكن أن يكون أكثر تمثيلا لحاجات الناس ولمصالحهم، ولحماية حقوقهم المشروعة في الحياة والعمل والحرية والرأي والموقف والاعتقاد 
ثالثا.
 
العنف والحلول الصعبة
انزلاق بعض اعمال الاحتجاج والتظاهر الشعبي الى العنف لا يعني أنّ هذا خيار مقبول، أو أنه نتيجة لضعف معالجة الازمة من قبل الجهات المعنية، بقدر ما يعني تحولا خطيرا قد يُعرّض السلم الاهلي الى الخطر، ويجعل الحكومة ومؤسساتها الأمنية أمام معطيات من الصعب السيطرة على تداعياتها، وهو ماحدث فعلا في مدن الناصرية والنجف، والذي دفع بالعشائر العراقية الى التدخل لمنع تداعي الاحداث، والى خلق فتنة قد تتجاوز واقع هذه المدينة او تلك..
سوء ادارة الدولة منذ ستة عشر عاما أسهم في اضعاف البنية الثقافية، والحالة الوطنية للمجتمع، فضلا عن التردي الحاصل في برامج التنمية، وفي مجالاتها المتعددة، مقابل الانخراط في اعمال وممارسات كرست مظاهر تشوه تلك البنية وفسادها، فالتعليم الاهلي الاولي والجامعي غير المُخطط له، والخارج عن الحاجة الوطنية، اسهم في تضخيم البطالة المتعلمة، 
فضلا عن تردي ادارة الملف السياسي الداخلي والخارجي، واخضاعه للمحاصصة المقيتة، كما أن ضعف ادارة الملف الاقتصادي، وتحويل البلد الريعي الى بلد للاستيراد العشوائي دفع البيئة الاقتصادية الى تشوهات خطيرة، كانت سببا في تضخم مظاهر الفساد والعجز، ونشوء "الطبقات الطفيلية" وطبقة الاثرياء الجدد الذي اسهموا في هدر المال العام، وفي تعطيل وتعطيب التنمية الوطنية وانجاز المشاريع الستراتيجية، فضلا عن دورهم في تكريس مظاهر العنف الاجتماعي والعنف الثقافي، لأنّهم محميون من قبل الجهات السياسية التي يعملون في ظلها وفي 
خدمتها.
   البحث عن حلول واقعية وعقلانية لايمكن انجازها إلّا عبر تغيير مسارات التفكير، فالحلول الترقيعية والطارئة لا تعدو أن تكون نوعا من التدوير السياسي، والذي سيعيد انتاج الفشل السياسي، وعبر ذات الوجوه والجماعات التي أثرت وتضخمت وتطفلت، ومن ثمّ تحولت الى قوة مانعة وطاردة لأي تغيير، وهذا مايُعطي للحراك التظاهري زخمه وقوته في فضح هذه الجماعات والسياسات، ووضع الجميع أمام عتبات حادة، وأمام خيارات ينبغي مراجعتها بجدّة 
ومسؤولية..