جواد علي كسّار
لستُ أدري إلى أيّ مدى يصحُّ الكلام عن المفكر المحظوظ، لأنَّ إنتاج الفكر يرتبط بكلّ شيء، إلا بالحظّ. لكن مع ذلك فإنَّ هاجس هذا العنوان وفكرته يضغطان عليّ على نحوٍ شديد، في كلّ مرّة ألحظ مفارقة من المفارقات الكثيرة بين علماء بلدنا ومفكريه ومثقفيه، والآخرين من حولنا من مفكري العالم العربي والإسلامي، آخرها ما حصل مع المفكر الإيراني الذي يعيش في أميركا حسين نصر، حين رحتُ أراجع كتابه "الحاجة إلى علم مقدس"، وهو آخر ما وقع بيدي من كتبه المترجمة إلى العربيَّة، إذ صدر هذا الكتاب في القاهرة
العام الماضي.
باختصار شديد، وُلد حسين نصر في طهران سنة 1933م، ودرس الفيزياء والعلوم الطبيعيَّة في أميركا، ثمّ انعطف إلى الحكمة والعرفان، وأصدر عدداً كبيراً من الكتب، الكثير منها مترجم إلى العربيَّة.
من أوجه الحظّ الذي أقصده، أنَّ ما يكتبه حسين نصر من بحوث ومؤلفات، يكاد يصدر بلغات ثلاث؛ الإنكليزية في أميركا والغرب، ويُترجم إلى الفارسيَّة في إيران، ثمّ إلى العربيَّة في العالم العربي، لا سيّما في
مصر ولبنان.
ما يُشاع من أنه الفيلسوف المسلم الوحيد المعترف به في أميركا والغرب، على حدّ تعبير الداعية الفلسطيني عدنان إبراهيم، هو ضرب آخر من ضروب الحظّ الذي
أقصده.
الأكثر من ذلك بقي حسين نصر يحظى بأهمية متميّزة في إيران، بين عهدي الشاه والثورة الإسلاميَّة على حدّ سواء. فمع أنه تمتع بمواقع مؤثرة في ظلّ نظام الشاه، كان آخرها ترؤسه لمكتب فرح
ديبا زوجة الشاه، والمرأة المؤثرة في بلدها، وصاحبة السلطة النافذة على قرارات زوجها، إلا أنَّ غضب الثوريين ضدّه لم يدم طويلاً، إذ راحت مقالاته وبحوثه وكتبه تنتشر في إيران الثورة واشتهر بأنه مؤسّس مذهب فلسفي، ومدرسة في الحكمة اشتهرت بـ"التراثيَّة"،
تقوم على محاور ستة، هي: الحكمة الخالدة، الوحدة العليا للأديان، التعددية الدينيَّة، الميل إلى العرفان والتصوّف، الموقف النقدي من الغرب وحداثته، وأخيراً الإيمان بضرورة العلم والأدب
القدسيين.
في آخر زيارة إلى إيران، اشتريتُ من المكتبات، كتابين نقديين ضدّ حسين نصر، أحدهما ينقد الجانب السياسي والآخر الجانب الفكري. أعترف أنَّ القارئ لهذين الكتابين يخرج مبهوراً بهذه الشخصيَّة وهي بسنّ الخامسة والثمانين، مع أنَّ المفروض بهما، أنهما يؤديان دوراً نقدياً مضاداً، وهذه من ضروب الحظّ أيضاً؛
هذا الحظ الذي لا نلمس له أثراً في حياة الكثير من مفكري بلدنا، مثل جواد علي وهادي العلوي وياسين خليل وحسام الدين الآلوسي، والسؤال: لماذا؟