محمد غازي الاخرس
حسنا ، فلأقل إنني “أدوّر” هذه الأيام عن دوخة الرأس “دوارة” فأذهب إليها في المكتبة الوطنية برجليّ وأفرشها أمامي باحثا عن خطاب ساد في الخمسينات ومزاج تلاه في الستينات والسبعينات، مفردات تتكرر، مفاهيم تشيع، أفكار تتسيد ونظريات تنتشر كموضات الملابس. الحال إنني، وأنا أقلّب في ارشيف جريدة قومية عام 1960 لاحظت سيادة مفردة “الفوضوية” ومفهومها. ثمة فوضوية وفوضويون وحركة فوضوية وجمهور فوضوي، وكل هذا الحشد من المفاهيم والنعوت يتحرك في الأخبار والتحقيقات والمقالات والقصص المنشورة. اسمعوا هذه العناوين الافتتاحية مثلا: نحن والفوضوية، صحف الفوضويين تنفرد بتزكية المجرمين، هل من جديد تحت شمس الفوضويين، صوت القتلة الفوضويين يدير رحى عطر منشم والخ. هذه عينات من أعداد صدرت خلال شهر واحد ، عناوين تختصر مواد كاملة عن أبطال فوضويين مثل حسن الركاع أو أبو طبل، وهذان شاعت أخبار “فوضويتهما” المزعومة فكتب عنهما مثلا: “ومن بين ما لجأت الفوضوية إليه في تقوية كيانها على حساب الثورة وعلى حساب القانون تبنيها لفيفا من الأشخاص المأجورين والتافهين فدفعتهم إلى العمل بضراوة وشراسة ضد المواطنين وحرضتهم على الإتيان بأعمال سداها ولحمتها خرق القوانين”.
الأحرى أنه مزاج عصر كامل، فوضوية تطيح بكل شيء كما تنقل صحف تلك الأيام. ولكن ما هي الفوضوية التي عرفها العراق آنذاك، أو التي فهم أنها ظهرت في عراق ما بعد الرابع عشر من تموز؟ الحال أن الفوضوية أو الأناركية أو اللاسلطوية في الأصل حركة فكرية ظهرت في القرن التاسع عشر على أيدي ف ويليام غودوين الانكليزي وميخائيل باكونين الروسي، وأبرز فكرة قامت عليها رفض أي شكل من أشكال السلطة وأولها الدولة. وحسب الباحثين الذين تتبعوا ظروف ظهورها، فإن افتقار العدالة الاجتماعية واتساع الفجوة بين أرباب العمل والعمال أديا إلى الثورة ضد السلطة السياسية المالكة للدولة، ومن ثم، عممت الفكرة لتشمل كل أنواع السلطات.
لا بل إن المنظرين السياسيين يعتقدون أن الثورات الشعبية الكبرى بدءا من الثورة الروسية ثم الألمانية في أعوام 1918-1923، والإسبانية عام 1936، والإيرانية عام 1979، والرومانية عام 1989، وفي الأخير، ثورات الربيع العربي عام 2011، كلها انطلقت من الفكرة نفسها: تحطيم سلطة الدولة والتحرر منها حتى وإن بدا الأمر خلاف ذلك، والأمر يشمل أيضا التحرر من سلطة التابوات الدينية والأخلاقية حتى أن شريحة من المفكرين الجامحين يمكن تسميتهم بالفوضويين رغم أن ميدانهم كان
الفلسفة.
في ما يتعلق بالعراق، فإنه في نهاية الخمسينات ظهر المصطلح وانتشر ليطلق على شريحة من الثوريين الشعبويين ممن حاولوا الانعتاق من سلطة القانون وفرض إرادتهم وأفكارهم بالقوة، ولنا مع الموضوع عودة فانتظروا.