فتنة الحروف والألوان والأضواء والخلاص الإنساني من عتمة الوجود
ثقافة
2019/12/10
+A
-A
د. رسول محمد رسول
في ثمانينيات القرن العشرين، وكلّما رأيتُ الفنان التشكيلي رافع الناصري في صالات بغداد الفنية، بدا لي رشيق الحضور بوجهه التساؤلي، ولون قميصه الأسود الذي لم يفارقه، لكنّها لوحاته الفنية كانت تأخذني بعيداً كلّما رأيت واحدة من لوحاته في (مركز صدام للفنون) أو في (قاعة الرواق)، أو في قاعات فنية أخرى هي التي بكت رحيل الناصري عن عمر ناهز 73 عاماً أغناها بالعطاء الجمالي والفني رائع الحضور
ولد رافع الناصري في مدينة تكريت عام 1940، ليأتي إلى بغداد طالباً في (معهد الفنون الجميلة) بين عامي 1956 – 1959 يوم كانت حرائق الثورة التموزيّة تلهب الشارع العراقي، ويحلق تالياً إلى الصين ليحطَّ رحاله طالباً بـ (الأكاديمية المركزية في بكين)، ويدرس فيها الحفر على الخشب، متخصَّصاً بفن الغرافيك، وهناك عقد أول معرض تشكيلي له.
عاد الناصري إلى بغداد وهو يحمل طاقة معرفية هائلة في فن الغرافيك، لكنّه، وفي أثناء، تدريسه بـ (معهد الفنون الجميلة)، مال إلى الواقعية التشخصيّة، لكن فنون الغرافيك ظلّت هاجسهُ حتى سافر سنة 1967 إلى البرتغال، ودرس في لشبونة الحفر على النحاس.
الهويّة التشكيلية
وفي تلك المرحلة اكتشف جماليّات الحرف العربي، وأدخلها في تكوينات تجريدية، كما اكتشف الأكرليك واستعمله بدلاً عن الألوان الزيتية. وبعد عودته إلى بغداد سنة 1969، أسّس (جماعة الرؤية الجديدة) مع عدد من التشكيليين العراقيين، وشارك في تأسيس (تجمُّع البُعد الواحد) مع الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد (1925 - 2004).
تجربة الناصري مع فن الغرافيك منحته التماس المباشر مع الطبيعة، بل مع أحد عناصرها المهمة ألا وهو الخشب. وعندما عاد إلى بغداد ارتمى في واقعية تشخيصية، لكن ارتماءه ذاك لم يكن ليروق له وهو الباحث عن تميّز ما، وكانت رحلته إلى لشبونة لدراسة الأكرليك، جعلته ينأى قليلاً عمّا هو زيتي من الألوان، بل وجد باباً ينفذ من خلاله إلى عوالم تشكيلية جديدة تميل إلى التجريد قليلاً حتى وجد فرصته الذهبية في التعامل مع الحروف كأشكال تمتلك طاقة تجريدية غير محدودة.
كانت تلك التجربة قد وضعت رافع الناصري عند عتبة التجريد، لكنه كان يبحث عن سياق تعاوني يحدّد الأفق، ولذلك أسس (جماعة الرؤية الجديدة)، بيد أن تلك الجماعة لم تكن تشفي غليل الرغبة العارمة بالتجريد لديه فوجد في تجربة الفنان شاكر حسن آل سعيد التجريدية، ومن خلال توظيف الحرف، محطة دافئةً جعلت من الأفق التجريدي واضحاً لديه، وبدأ مشروعه الجمالي يأخذ مدياته في أعماله ومعارضه التشكيلية لاحقاً حتى رحيله في يوم 7 كانون الأول/ ديسمبر 2013.
في خضم كل تلك التحوّلات كان الناصري يبحث عن تشكيل هويته الجمالية، ولم تكن الطبيعة بالغائبة عنه، فقد بقيت مرجعية أساسية في أعماله تعضّدها مرجعية التجريد، وكذلك مرجعية الغرافيك، فضلاً عن مرجعية الحروف، وصارت كل تلك المرجعيّات هويته الجمالية في حياته الفنية الحافلة بالعطاء من خلال مجموعة كبيرة من لوحاته التي طاف بها في غير مدينة وبلد وقارة.
يقول الناقد فاروق يوسف: «كانت علاقة الناصري الإلهاميّة بالطبيعة هي ما دفع به إلى اعتماد طريقة تجريدية في النَّظر إلى العالم، وهو ما جعله ينتقل بيسر إلى تفحُّص جماليات الحرف العربي انطلاقاً من ليونة شكلية، ستكون بمثابة المعبر الذي يصل ما بين الطابع الموسيقي الحركي الذي يتأنق من خلاله الحرف وبين الدلالات النَّفسية التي تنطوي عليها قوة المعاني في جُمل قد لا تكتمل».
تجربة كونيّة
إنّ لجوء رافع الناصري إلى الطبيعة بدا لجوءًا كونياً؛ ففضلا عن الطبيعة العراقية متعدِّدة الأشكال، كانت دراسة الناصري في بكين قد زوّدته بمعطيات عن الطبيعة الصينية بكل ما فيها من مكامن ساحرة، فضلاً عن الطبيعة التي احتفت به في مدينة لشبونة والمدن التي زارها فناناً بدرجة الاحتراف.
لم يكن رافع الناصري واقعياً مباشراً أو تسجيلياً، وهو الذي تعلَّم من التجريد فن التمثيل الجمالي الذهني، ولهذا كانت الطبيعة تحضر في لوحاته متهدجة بكونيتها، مشبعة بلغة تجريدية عالمية تتوسَّلها للتعبير عن مكنونات الذات الإنسانية لتجعل المتلقّي يبحث عنها بين مطاوي اللون والضوء والحرف مجتمعة ليس بعيداً عن إطاريّة اللوحة التي لا تغلق أجواء فضائها المكاني إلّا لتفتحه من جديد فيغرق أحدنا متأمّلاً عوالم الناصري الجمالية غير المتناهية في لوحاته.
عندما كنتُ أنظر في لوحات الناصري التي يبسطها في معارضه تلك التي افتتحها ببغداد، كانت استخداماته للون تشدني على نحو باهر، ولكن لم تكن أيّة لوحة من لوحاته لتخلو من لون داكن، إلاّ أن ما يكسر عتمة لوحاته تلك هو الضوء الذي ينبثق فيها كحلم أو أمل أو إشارة لغد آتٍ أو ولادة ممكنة في ظل موت سافر يطحن الحياة.
اللون والحرف
بدت استخدامات اللون لدى الناصري تثبيتاً لمركزية التجريد في تجربته التشكيلية، بمعنى أن الناصري مثلما وجد في الحرف طاقة تجريدية، كذلك وجدها في الضوء الذي هيمنَ على أغلب لوحاته، لكنه الضوء الكوني أيضاً، ذلك الضوء الذي لا يريد أن يكتسب هويته إلّا بوصفه خلاصاً إنسانياً من عتمة الوجود الطاغية على حياة البشر.
لقد تزامن استخدام اللون الداكن مع اللون الأحمر القاني في لوحات عدّة للناصري لما لهذا اللون من أهمية مركزية في عالم الفنون التشكيلية، إذ «أن عدد الموجات أو الأشعة الضوئية الساقطة على شبكة العين هو الذي يقرر ما نحس به من متعة أو ضيق»، كما يقول هربرت ريد في كتابه (تعريف الفن).
لقد عاش الناصري في بلد أريقت في مدنه الدماء بلا هوان، ولذلك كان اللون الأحمر يغزو دواخله ليستقر على سطوح لوحاته التي تتقاسمها ألوان أخرى داكنة، لكنّه الضوء المشرق الذي نجد تبئيراً له في وسط اللوحة أو في أعلاها أو أسفلها يبدو مخرجاً لأمل ممكن، بل لولادة ممكنة في ظل الخراب الأهوج الذي كان وطن الناصري سائراً في دروبه وما يزال.
كانت تجربة الحرف في لوحات رافع الناصري ذات أثر بالغ في مشهد الفن التشكيلي العراقي المعاصر لا تقل أهمية عن التجربة ذاتها لدى الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد. وعندما ندخر وقتاً لمعاينة لوحات الناصري التي استخدم فيها تلك الطاقة الهائلة لتوظيف الحرف، نجدها تتعدَّد بحسب طبيعة تجربة الفنان مع لوحة ما دون أخرى.
في لوحات عدَّة يحضر الحرف بجسديته المعتادة، لكنّه يستمد دلالته من السياق الدلالي الكوني للوحة، فيظهر في لوحة ما بحرف واحد، ويظهر في أخرى ككلمة مؤلَّفة من حروف عدَّة، وفي لوحة ثالثة يظهر جُملة تراثية أو آية قرآنية أو بيتاً من الشِّعر.
قد يأتي استخدام الحروف ارتكاساً للواقع وما يتطلَّبه من مخاطبة مباشرة، لكنّه، وفي لوحات الناصري، يكتسب نمطاً آخر كونه يتساوق مع دلالة اللوحة الجمالية والمضمونية، فلا يأتي الاستخدام منعتق الصلة عن سياق اللوحة، لا سيما أن الحرف العربي الموظف في اللوحة يأتي وفق بؤرة ضوئية ولونية قد تستحوذ على عالم اللوحة برمته لكنّهما يشتركان مع لغة اللوحة في نسق واحد.
الشعر والرسم
وجد رافع الناصري في زوجته الشاعرة «مي مظفر» عالماً جمالياً عاطراً بأنوثة سماوية مبدعة، مي مظفر التي رافقته سنين عمره، وسهرت على حبّاته الشخصية وفنه حتى رحيله. لقد وظّف الناصري قصائد زوجته في عددٍ من لوحاته، وكانت تلك تجربة أخرى من تجارب تعامله مع الحروف؛ ففي عام 2008 كان الناصري رسم لوحة ضمَّنها قصيدة من قصائد زوجته «مي» التي كتبتها قبيل إنهار نظام صدام حسين في بغداد عام 2003، ونشرتها تالياً في ديوانها (من تلك الأرض النائية) الذي صدر في بيروت سنة 2007، وجاء فيها:
«هُزمت بنا الأرضُ
لم تبقَ السماء لنا رمق
طارت على كل الجهات عباءتي
منسوجةً بخيُوط نار..
حملت على ريش الجناحين اللذين تعاندا
شعباً ينام على ورق».
لم يعمل الناصري على تمثيل الدلالة الكُلية لما ترمي إليه القصيدة فقط، إنّما وظف وجودها النَّصي بكل حمولته الدلالية والخطابية والجسديّة والحروفية في سطح اللوحة حتى أصبح جزءًا من نسيجها التشكيلي النَّصّي، وصارت دلالة النَّص الشعري منصهرة على نحو تلقائي مع دلالة النَّص التشكيلي في اللوحة، بل صارا معاً لوحة واحدة في جسدها ودلالتها وخطابها.
لقد رحَّل الناصري بعض دلالات النَّص الشعري وحولها إلى نصوص تشكيلية، ولعل بقع اللون الأحمر المنساب في اللوحة إلى الأسفل يشي بدلالة الموت، واللجوء إلى البقع السوداء يشي أيضاً بحجم الخراب، ناهيك عن البياض المشروخ في وسط اللوحة، والذي يدلَّ على هوة الضياع، وهو الضياع الذي تحتمي به القصيدة كمآل طال الذات البشرية الملتاعة بالحروب وبدمار الأوطان.