رفض عبادة الإلهاء

ثقافة 2019/12/11
...

ياسين النصير
 
من المبكر جدًا الحديث عن توجه جديد للأدب مصحوبًا بالرفض العملي لعبادة الإلهاء التي دأب الشباب على ممارستها على مستويات عديدة، ما تشهده الساحة هو رفض ذاتي لثقافة الإلهاء، سنوضح هنا بعض مستويات هذا الرفض بشكل تعميمي، ونؤجل الحديث التفصيلي عنها لدراسة سوسيولوجية عن ألعاب الإلهاء ودورها في تغييب الوعي الاجتماعي 
قضية الرفض، هو ما مارسه الشباب في ثورتهم الجارفة للتقاليد الساكنة في تشرين من عام 2019، وكان ميدانها الساحات العراقية، هذا الرفض يشكل الثيمة المحورية للخروج من إطار الألعاب الكومبيوترية، إلى الألعاب السياسية، وهو خروج الوعي من عاديته وحركيته الجسدية، إلى الفعالية الجسدية النابضة بالحرية، فالكيفية التي يستهلك الشاب بها وقته، تحولت إلى الصيرورة الذاتية لإرادته بأن يكون لاعبًا ماهرًا في ميدان التغيير، وعلى أرض عراقية واقعية، وليست أرضًا متخيلة كالارض التي تنتجها لعبة البوبجي مثلا. هذه أولى مظاهر تغيير لعبة الإلهاء، حين يكون الجسد من عناصر تكوينها، الجسد المنتفض المنغمر في الإلهاء، الباحث عن كينونته خارج الفعل، وبطريقة جماعية يشترك فيها مع الآخرين. وجد نفسه أنه في دائرة مفرغة من النتائج. لقد فرضت الساحة طريقة لألعاب جديدة، طريقة البحث عن الوجود المغيّب في المقاهي والأمكنة المنزوية، وملاحقة احلام الوهم التي تضخها آليات النصوص القديمة، لقد وجد الشباب كينونتهم حينما شعروا انهم ضحية لألعاب الآخرين، وأن اللعبة الطائفية التي يمارسونها بدت فارغة من معناها، حينما سقطت في اول امتحان بغزو العراق من قبل داعش. 
البعد الثاني لرفض عبادة الإلهاء، أن الشباب قد وعى دوره في ظل غياب التوجيه، بمعنى أنّه أفتقد الأبوة، أبوة الدولة، وأبوة التعليم، وأبوة المشاركة الوطنية، فاقتعد سنوات شبابه يراقب دون فاعلية أن ما جرى من صعود لفئات مهمّشة وتسيّدها لشؤون البلاد، وبمباركة المؤسسة الدينية، لعبة لهو كبيرة، لايستفيد منها اللاعبون، بل من يديرها، وحين انتبه إلى انه اصبح لاعبا فارغا من المحتوى، انتبه إلى أنه قد دخل في لعبة إلهاء سياسية كبرى، هي لعبة التمدن الشعبية التي اضفي عليها المقدس، الذي لم يعنه على قوت أو أمان أو عمل.
البعد الثالث لرفض ثقافة الإلهاء، ان كل الالعاب السياسية التي تمارسها السلطة ضده مشحونة بتعاليم وهميّة، وهذا ما يجعله مقيد الحرية، معطوب الرؤية، وقاصرًا عن الفعل. ولذلك تجد خطاب المنتفضين متعدد الأصوات، مختلف الشعارات، الصوت الذاتي فيه هو الأعلى، لكنهم، وباقل من أسبوعين توحّد خطابهم، واتضح مسار طريقهم، وبدأ فعلهم كما لو كان قد فهموا آليات اشتغال المغايرة.
البعد الرابع لإلغاء ثقافة الإلهاء، هو اعتمادهم على أنفسهم، تنظيم الساحة، توفير مستلزمات العيش، تنظيم العمل، توزيع المهمات، مواجهة الرصاص، تقنية السلامة، وسائط النقل الشعبية، استجلاب قطاعات جديدة للساحة، نهوض وطني سريع، وبدأت العاب الحرية تأخذ مجرى الثقافة
السياسية.
ما تراكم من افعال يومية قد لا نستطيع متابعة متغيراتها، فما يحدث في ساحات بغداد وساحات المدن العراقية الأخرى ينتج ثقافة محلية بسياقات مناطقية تصب كلها في بلورة نشيد وطني للانتفاضة، مفرداته صناعة جديدة، وعمل مؤسسات حديثة، خطاب ثوري ينسجم وطماح الشباب، تقييم جذري لما حصل في العراق، رفض لسياسة المحاصصة، اعلان واضح لمحاسبة الفاسدين، طرح تصور لتغيير جذري في نظام الحكم وآليّة الانتخابات...الخ، كل هذه الميادين ألعاب سياسية مختبرة عالميًا ومطلوبة محليا، استدعت دماء ضحايا شباب وآلاف المصابين.
تتحول بعض ألعاب طفولتنا اللاهية، إلى العاب سياسية عندما نكبر وننضج وتتضح الرؤية، وبدلًا من اللهو، تظهر الحاجة إلى المعرفة. في إحدى سياقات الحداثة في أوربا القرن العشرين، أن بعض الشباب كان يتعامل مع المدينة باتجاه واحد، كما لو كان التعامل هو السير في شارع يؤدي إلى حائط مسدود، وقد كتب فالتر بنيامين مقالا عن السير في «شارع ذو اتجاه واحد» تحدث فيه عن التأقلم مع مدينة باريس، حيث وجد نفسه غريبًا فيها. وكان يعني باريس في بداية القرن العشرين، المدينة التي تهيئ نفسها لتزعم الحداثة، والمنتفضة حديثا من سلطة الكنيسة، لكنّه وجد أن هذا الشارع ذو الاتجاه الواحد لا يؤدي إلى احتواء باريس، لذلك صرف النظر عن مشروعه ليعود إليه في ثلاثينيات القرن الماضي. لكنه اشعرنا بوجود رؤية فنتاستاكية عندما يوجد آخر يفكر أيضا بالسير نحو باريس بشارع ذي اتجاه واحد، يعني وجود شخصيتين تفكران بالحداثة، ولما التقيا، أضافا الشارعين لبعضهما، فانتاجا لعبة يمكنها ان تؤدي بالشارعين إلى طريقين للسير نحو المدينة، ولما رسما ذلك على مسرح الشارع كلعبة كوميدية رثائية، انضم إليهما مجموعة من المشاهدين، فرسم كل واحد منهم شارعه الخاص، المؤدي إلى باريس، ولما تجمعت الشوارع على مسرح الشارع اليومي رسم الشباب صورة أخرى لباريس الجديدة، باريس التي ترى عبر شوارعها العديدة، أنها مدينة الحداثة، كصورة معبرة عن خيال الشباب، هكذا فعل شباب ساحة التحرير، عندما جاؤوا بالعابهم الذاتية وبدؤوا يرسمونها على أفق ساحة الحرية، فوجدوا أنفسهم مجموعة بصوت متعدد هادر، يمكنه أن يفتح أفقًا لبغداد المقبلة، لا يسير إلى بغداد بشارع ذي اتجاه واحد، بل بشوارع مختلفة الاتجاهات، تصب جميعها في ساحة التحرير. ما يجعل هذه الظاهرة الاجتماعية الجديدة ميدانا لدراسة اجتماعية مقبلة، هو أن الفئات الاجتماعية تحرّكت أول الأمر لرفض ما فرض عليها من ألعاب الإلهاء «البوبجي، والأركيلة، وجلسات المقهى الساكنة، وتقليد الأزياء الغربية، واحتساب الأيام للزيارات» ثم انضمت المجاميع لبعضها دون معرفة بتفاصيل شوارعها، ليجدوا انفسهم جميعا يلعبون لعبة الوطن المفقود، فكان الشعار «نريد وطنًا» شعارا تؤدي إليه كل الشوارع الحقيقية والمفترضة، وهذا ما كان في البداية، التي تعمّقت على مدى الأيام، لتصبح هوية جديدة لفئات اجتماعية متنوعة، وجدت نفسها مسؤولة أولًا عن كينونتها، وثانيًا عن مجمتع ممزق الاوصال تناهبه ملوك المال الفاسد، والجغرافيا المسروقة، وألعاب أوهام الغيب، وألعاب سياسة الجيران.