توصف مهنة الكتابة بأنّها من أعقد المهن الإنسانيّة النوعية التي يتراوح مفهومها المهنيّ دائماً بين الهواية والحِرفة، وهي قضية بالغة التعقيد من الصعب جداً حسمها لصالح أحد الطرفين وذلك لفرط التداخل والتماهي بينهما على نحو مثير وغامض، فالهواية هي الأصل الجوهريّ في قضية الكتابة ذات الطبيعة الأدبية غير الربحية على نحو خاص.
لكنّها ما تلبث أن تتحوّل إلى حِرفة بعد أن يجد الكاتب نفسه رهين مهنة لها اشتراطات والتزامات وقواعد ليس بوسعه التخلّي عنها، ومن هنا تنشأ فعاليّة الاحتراف الكتابيّ نتيجة دخول الكاتب في فضاء له علاقة بالماحول السوسيوثقافيّ لا يمكن مغادرته إثر ولادة تقاليد وأعراف ومواثيق بينه وبين القرّاء، فضلاً على ما تتيحه الكتابة من شهرة ومردود مادّي ومعنويّ يصنع من الكاتب نجماً بكلّ ما تنطوي عليه هذه الصفة المثيرة من إغراءات وإغواءات لا سبيل إلى
تجاوزها.
كائن حي
طالما أنّ الكتابة الأدبية بأنواعها وأشكالها وأنماطها وأساليبها المتنوّعة تقوم في عنصرين رئيسين من عناصرها الإبداعية على العاطفة والخيال، فلا بدّ أن يتعرّض مفهوم (المهنة) لإشكالات عديدة في التناقض المحتمل الناتج عن الطبيعة الموضوعية للمهنة من جهة، والطبيعة الذاتية التي تشتغل في خضمّها آليّتا العاطفة والخيال في صناعة الكتابة الأدبية من جهة أخرى، وعلى هذا لا يمكن التعامل مع الكتابة بوصفها مهنة سهلة يمارسها كلّ من عرف القراءة والكتابة ومحا أميّته وصار بوسعه تدوين بعض الجمل على الورق، بل هي أصعب كثيراً ممّا يتخيّل كثيرٌ ممّن يعتقدون أنّهم كتّاب ولهم كتب ومقالات منشورة ومعجبون وقرّاء وحتّى مريدون، فثّمة آلاف أو ملايين الكتب تحتلّ رفوف المكتبات وتنتشر على أرصفة الشوارع كي تباع بأزهد الأثمان ولا من مشترٍ يجبر بخاطرها في الأقلّ، مثل هذه الكتب التي لا تحفل بأيّة عناية من القرّاء الجادّين لتبقى دائرة في فلك الإهمال، ومن ثمّ تموت وتندثر وتفقد أرواحها المحتملة إلى الأبد.
أحلام القرّاء
الكتاب الذي ينتجه الكاتب يتحوّل إلى كائن حيّ وكيان متحرّك مليء بالحياة والسحر والغموض والأسئلة والألغاز والأحجيات الطريفة، إلى الدرجة التي حَدَتْ بإحدى شخصيات رواية (لعبة الملاك) لكارلوس زافون القول: (إنّ كلّ كتاب تعيش فيه روحٌ ما، روحُ من ألّفه، وأرواح من قرؤوه وحلموا بفضله)، ليكون بذلك حياة كاملة تمتدّ في أفق الزمن إلى ما لا نهاية، من الواقع إلى الحلم ومن الحلم إلى الواقع في دينامية لا تنتهي، ولكي تنثر أعطياتها الفريدة في الأمكنة كلّها بلا حساب، هذه الروح لا يمكنها أن تعيش طويلاً من دون حيوات قرائيّة تحرّك هذه الروح الغافية في مكانٍ ما من الكتاب وتستثير رغبتها في الكشف، وتفهم على مستوى آخر أسرار الكتابة في طبقاتها الخفيّة وتنتمي لها بعمق ومحبة وثقة وطمأنينة وسلام.
بمعنى أنّ فلسفة الكتابة لا تقف عند حدود عالم الكاتب فقط -مع مركزية هذا العالم وبؤريته- بل تمتدّ حتّى فضاء القراءة في نوع من التلاحم الميثاقيّ الحميم بينهما، فالعناء الجميل الماتع الذي يخوضه الكاتب في درجة عالية من درجات التجلّي وهو منغمس بتأليف كتابه ووضع تجربته موضع التفاعل الحيّ مع ضرورات النصّ، لا بدّ أن يستوحيه القارئ بما يمتلكه من آليّات وأدوات وإجراءات قرائيّة كي يعيش تجربة اللذّة نفسها ليمنح الكتاب الحياة التي ينتظرها، وينطوي الكتاب دائماً على تلك المشاعر الدفينة التي يتركها كلّ قارئ لتتراكم أحلام القرّاء وتزاحم في تراكمها مشاعر الكاتب وهي تتجلّى في كلّ كلمة منه.
حياة الكتاب حياة خفيّة تضمر أكثر كثيراً ممّا تُظهِر وهي على هذا النحو تُحسُّ ولا تُرى، ويتعاظم الإحساس بها ويتضاعف ويتنامى لدى أولئك الأفذاذ القادرين على التلصّص الجميل على مفاتن الكتاب الداخلية التي لا تنكشف إلّا لهم، كي تسحرهم بطاقتها على الاحتواء والعطاء والانفتاح على أرواح طيّبة ترتقي مجد السماء لتمكث هناك في الأعالي بقدرٍ عالٍ من الديمومة والخلود والإشراق، ومن لا يعرف سرّ الكلمة في إيقاعها الأوّل يستحيل عليه فهم ما يحمله الكتاب من مقولات وقيم وأفكار وجماليات ومُتَع لتفوتَه فرصةُ التوصّل بباب المعرفة من اتجاهه الصحيح، ولن يدرك ذلك أبداً مهما تسلّح بقوى هائلة وممكنات كبيرة لا تشتغل في حقل المعرفة التي لا سلطة عليها غير سلطة ذاتها
المعرفية.
البنيان الكتابي
تقوم فلسفة الكتابة في درجة مركزية من درجاتها على ذكاء اختيار الكلمة في مكانها المناسب الذي لا بديل له، إذ تكون قد احتلّت موقعها الطبيعيّ في الجملة من حيث شكلها ودلالتها وإيقاعها وقدرتها على صناعة المعنى المطلوب، وإذا ما تراكبت الكلمة بعد الكلمة وتصاهرتْ على هذا النحو وألّفت الجملة ومن ثمّ التركيب وصولاً إلى الكيان النصيّ كاملاً تكون قد أدّتْ مهمتها على أكمل وجه، وإنّ أيّ خلل في هذه المنظومة الكلامية التي لا تقبل الخطأ سينعكس آلياً على فلسفة الكتابة ويفسدها حتماً، وهذا يعني أنّ الكلمة الواحدة هي نقطة الشروع في المسار الصحيح للكتابة حين يعي الكاتب طبيعتها وضرورتها وقيمتها وحساسيتها، وينتخبها في الوقت المناسب لتكون لبنة تامّة الصحة واللياقة في تشييد البنيان الكتابيّ على الصورة
المثلى.
ولا بدّ في هذا السياق من إدراك أنّ الكتابة هي المرحلة الأخيرة من مراحل تحويل التجربة إلى نصّ أدبيّ، وهي مرحلة مختلفة عن كلّ ما سبقها إذ تتعرّض لاقتصاد شديد في ترجمة الأفكار والأحاسيس والقيم إلى كلام ذي فلسفة خاصة، إذ يتمّ استبعاد كلّ ما هو زائد ولا يؤدي وظيفة حاسمة وأساسيّة من الكلام بعيداً عن أيّ ترهّل محتمل يقوّض هذه الفلسفة الكتابية البالغة التناسق والانسجام والتكثيف، والإبقاء على الكلام النوعيّ الأصيل الذي لا يمكن الاستغناء عنه مهما بالغنا في فعالية الاقتصاد اللغوي والتكثيف الدلاليّ الموحي، عندها فقط بوسعنا الاطمئنان على تمتّع النصّ بما نصطلح عليه
(فلسفة الكتابة).