الفضاءات الأدبيَّة في الروايات النسويَّة

ثقافة 2019/12/14
...

عفاف مطر
 

 بالرغم من أنّي ضد تقسيم الرواية الى نسوية وغير نسوية، لا سيما أنه لا يقابل الرواية النسوية الإشارات التي لاحظتها في بعض الروايات “النسوية”، لكن ليس بينها وبين الأدب الذكوري، بل بين الروائيات العربيات رواية رجالية! إلّا أن هذا هو الواقع، وتسليمنا به لا يضر ولا ينفع للباحث الحقيقي أو المهتم أو حتى القارئ؛ إلا أني أقف عند بعض واهتماماتهن والروائيات الغربيات وقضاياهن

سأخذ على سبيل المثال أبرز أربع روائيات، غادة السمان وأحلام مستغانمي اللتين ما زالتا تعتليان قمة الرواية العربية النسوية، وتشارلوت برونتي وفرجينيا وولف كقامتين أدبيتين على الرغم من مرور عقود كثيرة على وفاتهما. لا شكّ أن معاناة المرأة كانت ومازالت قضية شائكة، وبالرغم من المكتسبات التي نالتها المرأة الغربية إلا أننا ما زلنا نرى ناشطات وداعمات للقضايا النسوية في بلادهن، ومن ثمّ ليس من الغريب أو المعيب أن نرى الأديبات العربيات والغربيات منشغلات بقضاياهن، لكن ماهو المدى والفضاء اللذان تتحرك وترسم فيهما تلك الأديبات؟ لو اخذنا أشهر رواية للكاتبة الانجليزية تشارلوت برونتي (جين اير) لوجدنا أن صوت الراوي منبثق من أعماق تشارلوت نفسها، بمعنى ان تشارلوت كانت مشغولة برسم ذاتها عبر بطلة الرواية جين، لم تهتم كثيراً بالفضاء الزماني والمكاني الذي كانت تعيش فيه، بل استسلمت لزمانها ومكانها كما هو، بل وأشعر أنّها لم تكترث لكليهما كثيراً، فقد استغرقت في قضيتها، في قضية الأنثى المحرومة ليس فقط من حقوقها المدنية، فهذه قضية كبرى لم تكن قد أُثيرت أصلاً في ذلك الوقت، بل المحرومة من نصيبها العاطفي والانساني في العالم التي كانت تعيش فيه، والمحرومة كذلك من احترام المجتمع لها مهما بذلت الجهد في سبيل ذاتها او أهلها لنيل هذا الاحترام، بل وكما يعرف من قرأ هذه الرواية انها بذلت التضحيات وقدمت التنازلات الى الحد الذي وصل بها أن تترك كل ما وصلت اليه من استقلالية فقط لترجع وتفوز بقلب حبيبها بعد أن أفلس وصار أعمى، في وقت لم يكن من السهل أبداً على المرأة أن يكون لديها مال وعمل ومنزل خاص بها، خلاصة ما أرادت أن تقوله تشارلوت إنّها تستحق وبجدارة أن تحصل على الاستقلالية الكاملة وإنها على استعداد للتخلي عن هذه الاستقلالية في سبيل حبها، وإن لديها القدرة وهي الأنثى المهمّشة أن تقف الى جانب رجلها كل ذلك لأجل نيل احترام الرجل والمجتمع وهو الأمر الأشبه بالمستحيل في ذاك الزمان. أما فرجينا وولف رائدة تيار الوعي، كان شغلها الشاغل إخراج الأصوات التي كانت تسمعها برأسها على الورق، فمن السيرة الشخصية لهذه الروائية الغامضة الصامتة، نعرف أن فرجينيا ومنذ أن كانت طفلة صغيرة، كانت تسمع أصوات طيور تغني باللغة اليونانية، تطور معها الأمر الى سماع أصوات ناس وشخصيات وأحداث، صنعت منهم رواياتها، وإذا أخذنا أهم وأشهر رواياتها (مدام دالاوي) نرى فيه ولا أقول (نقرأ) المونولوج الداخلي مسبر عالم اللاوعي، لقد تخلت عن البانورامية لصالح الوصفية وومما لا شكّ فيه أنها لجأت الى هذا الاسلوب من دون قصد أو عمد، بل لأنه يحقق لها التنفيس عن دواخلها، هي تكتب انطباعاتها الداخلية عن العالم الخارجي، بمعنى أن روايات وولف مشغولة بعالم وولف أكثر من أي موضوع خارج أسوار ذلك العالم، فالعالم الخارجي كان بالنسبة اليها غريباً الى حد كبير تحاول التواصل معه عبر المونولوج، تحاول تفسيره وفهمه وتحليله عبر مفاهيمها الخاصة، وليس عبر قواعد العقل والمنطق. والآن لنرى بماذا انشغلت الروائيات العربيات، نرى أن غادة السمان وأحلام مستغانمي انشغلتا بمحاربة؛ وفي الوقت ذاته استرضاء العالم الخارجي وأقصد هنا ليس الرجل الشرقي والمجتمع فقط، بل والقضايا العربية أيضاً، فالزمن الذي عاشته كل من تشارلوت وفرجينا لم يكن يخلو من قضايا سياسية واجتماعية ودينية وأدبية، إلّا أنهما انشغلتا بذاتهما أكثر على اعتبار أن كل واحدة منهما تمثل أنموذجاً للمرأة في تلك العصور، لكن غادة وأحلام، كانتا في سباق محموم مع نظيرهما الروائي الذكر، والقارئ لهما يستطيع أن يرى دائرتي اهتمام في كتاباتهما، الأولى دائرة قضية المرأة وماتعانيه وما تبذله من جهد لتبلغ موقعا يساويها كامرأة مع الرجل، والدائرة الثانية، كانت تتمحور حول إثبات نفسها كروائية مهتمة بقضايا العروبة والشأن السياسي مثل الروائي الرجل، وهما بذلك تحاولان أن ترسلا رسالة واضحة للروائيين الرجال والنقاد قبل القرّاء أنهما ليستا أقل فهماً ونضجاً وتحملاً للمسؤولية الوطنية والاجتماعية منهم، وهو ما أراه عيباً كبيراً يقع على أي روائية عربية، إذ يجب أن يكون الدافع لكتابة أي عمل أدبي شخصي في المقام الأول، فلا يمكن لأي امرئ أن يرمّم عالمه الخارجي ومازال عالمه الداخلي يشكو من التصدّع والشقوق. إن أي معاناة شخصية هي بلا شكُّ معاناة إنسانية، فنحن نعيش في عالم واحد وبيئات متقاربة بل ومتماثلة أحياناً، فلو انشغلت الروائية العربية بهمومها أكثر لربما وصلت الى ما عجز عنه الروائي الرجل. وأحب أن أشير الى أن الكثير من الروائيات العربيات نهجن هذا المنهج وأعني هنا الانغماس التام بهمومهن مثل صبا الحرز صاحبة الرواية الوحيدة (الآخرون) ورواية (اكتشاف الشهوة) لـفضيلة الفاروق، ورواية (إني أحدثك لترى) لـمنى البرنس، وغيرهن كثر، إلّا أنهن لم ينلن شهرة واسعة مثل غادة وأحلام أو عالية ممدوح، ذلك أن العامل المشترك بين هذه الروايات أن موضوعها الأساسي وثيمتها هو الجنس، وكأنّ المرأة لا تعاني إلا من الكبت الجنسي، ولأننا نعيش في عالم يقدس العرف والعادات ويتسيده الرجل، فقد انحاز الروائيون الرجال والنقاد الى غادة وأحلام وعالية لأنهن بشكل أو بآخر يمثلن ظلاً لهم، وبين تقصير الروائيات الشهيرات في تناول قضايا وهموم المرأة فقط لنيل شرف استحقاق السباق مع الروائيين الرجال، وتقصير الأخريات باختزال قضايا المرأة بقضية واحدة وهي الجنس، فعلى الروائية العربية أن تدرك، أنه إذا احتاجت الرواية العربية مئة عام لتصبح في مصاف الرواية الغربية فإن الرواية النسوية العربية ستحتاج أمداً أطول بكثير لتصل لمصاف الرواية الرجالية في يومنا هذا.