لطالما قيل، وسيقال دائما، إنّ هنالك استسهالا واضحا في كتابة "قصيدة النثر" من شعراء عديدين. إذا صحّ تماما قولٌ كهذا، وهو كذلك، فإنّ المقصودين به، كثيرين أم قليلين، إنّما هم، إجمالا، من أنعتهم بـ "المتشاعرين". هؤلاء يجهلون أبسط أبجديات هذه القصيدة، ليس الأصعب من أبجدياتها!، ومنها أهمّ مزاياها النوعية: الأولى: إيحائيتها التأويلية، لا الإخبارية المعنوية، لأنّها تبتكر استثناءات مداوِرة، دون تكرار اعتيادات مباشرة، عبْر مولِّد: لساني "كلمة / جملة" ـ دلالي "علامة / إشارة".تمثيل افتراضي: قبعتي مثقوبة ((إخبارية معنوية)) - ذاكرتي مثقوبة ((إيحائية تأويلية)).
تمثيل استنادي: في نص الشاعر فرج الحطاب "بصيرة"، من مجموعته "لصوص, دار السلام ـ بغداد, ط1, 1997, ص37"، ثمة ((لم أر السواد / لكنّني شممته)).
الثانية: سرديتها التداخلية، لا الحكائية التجنيسية، أيِ المنفلتة من التجنيس، بالضرورة، لئلّا تغدو "قصة"، من حيث المفهوم التجنيسي لـ "القصة"، ولكي تبدو "قصيدة". تمثيل افتراضي: كان أبي شرطيا فلمْ يستطع أن يصير حزبيا وحين تقاعد انتمى لحزب ((حكائية تجنيسية)) - كان أبي شرطيا فلمْ يستطع أن يصير حزبيا وحين تقاعد فتح دكانا ((سردية تداخلية)).
تمثيل استنادي: في نص الشاعر فلاح عدوان "خسوف الكائن"، من مجموعته "دمع خام, دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد, ط1, 2012, ص45"، ثمة ((غاب../ ولا شيء معه/ سار دون نهار/ كثيرا ما نام/ من دون ليل/ لذلك/ جاء حلمه عابسا)).
الثالثة: عينيتها البصرية، لا الأذنية السمعية، بحيث تختبر معرفتنا الكتابوية، ليست تخاطب مثاقفتنا الشفاهوية، فتستثمر الورقة: مثلا/ بالتنقيط الأفقي للسطر لتوصيل الاحساس بالوقت.
تمثيل افتراضي: أسير ثم أتوقف ((أذنية سمعية)) - أسير..... ثم أتوقف. ((عينية بصرية)).
تمثيل استنادي: في نص الشاعر نضال العياش "كي لا يستيقظ الحلم"، من مجموعته "فيْء الربابات, تموز للطباعة والنشر والتوزيع ـ دمشق, ط1, 2011, ص59"، ثمة ((وأنام........../ أنام أبدا............... )).
الرابعة: إيقاعيتها الحسية، لا العروضية اللمسية، أي الداخلية تخمينيا، غير الخارجية توصيفيا، كما يُحْدثها ـ مثلا ـ كل تكرار لفظوي متحرر من التقفية.
تمثيل افتراضي: لا تعودي خائفةْ/ لا تقولي "آسفة"/ لا تكوني نازفة ((عروضية لمسية)) - ثانية تعودين كخوفٍ/ ثانية تقولين "آسفة"/ ثانية تكونين نزفاً ((إيقاعية حسية)).
تمثيل استنادي: في نص الشاعر حسن السلمان "الوصايا المغدورة"، من مجموعته "حمّى الأوقات الضائعة, اتحاد الأدباء والكتاب ـ ميسان, ط1, 2013, ص18"، ثمة ((ألم أقل لك لا تأتي/ ولكنك أتيت؟/ ألم أقل لك هواء البلبل/ عيون تتربص/ والصدفة/ رسائل دون عناوين.......)).
الخامسة: كليتها الجمعية، لا الجزئية الفردية، حيث تنصهر فيها: "أنا" الناص ونصه (= الـ"أنا" الشعرية) + "أنا" العالم الخارجي (= الـ"نحن" الشيئية).
تمثيل افتراضي: أنا أحب وطني لأنني أعيش فيه ((جزئية فردية)) - نحن نحب وطننا لأننا نتوحد به ((كلية جمعية)).
تمثيل استنادي: في نص الشاعر جمال جاسم أمين "أبناء الشتات"، من مجموعته "بحيرة الصمغ, منظمة الصحفيين والمثقفين الشباب المستقلة ـ ميسان. ط1, 2011, ص78"، ثمة ((البعض../ يتعلمون من الأشياء أفضل ما فيها/ أما نحن/ فلم نتعلم من النجوم كيف نضيء/ بل تعلمنا كيف نتشتت!)).
تنويهان:
* للقراء عموما: التمثيلات الافتراضية، وهي من عندياتي، راعيت فيها التبسيط دون التعقيد.
* للشعراء جميعا: التمثيلات الاستنادية اخترتها تلقائيّاً بذاكرتي القرائية، أثناء الكتابة، حيث أمثالها بالمئات.